عمليات نوعية كثيرة يحفظ مقاومو «جمّول» تفاصيلها. هنا استعادة لعمليتين: اغتيال ضابط الموساد أبو النور، واقتحام لمزارع شبعا
أطلق الشيوعيون مقاومتهم في البقاع الغربي
وراشيا في أيلول 1982. خزّن قاسم محيدلي و«الحاج» الأسلحة والصواريخ في
خزّان للمياه في مشغرة. وكانت القرعون خزّانهم الأوّل ومصدر أسلحتهم. في 16
أيلول 1982، صدر بيان انطلاقة جبهة المقاومة. نفذ فهد ومازن ومجموعتهما
عمليتهم الأولى في بيروت، وأطلق قاسم محيدلي الرصاصة الأولى، معلناً بدء
العمليات العسكرية ضد الاحتلال في البقاع الغربي وراشيا.
لم يكن يخطر بباله أن رصاصة مسدسه ستكون بداية مرحلة دحر الاحتلال. في
20 أيلول 1982، كمن قاسم بمسدسه على طريق قليا. انتظر أكثر من ساعتين حتى
عبر صهريج مياه للعدو. أطلق رصاصته، فقتل سائق الصهريج وغادر بهدوء الى
مشغرة حيث أرسل إلى القيادة على قصاصة ورق صغيرة: «قتلنا جندياً إسرائيلياً
على طريق قليا وانطلقت المقاومة».
انطلقت المقاومة في البقاع الغربي. نفذ الراحل عباس باز عملية قنص لجندي
إسرائيلي قرب مهنية مشغرة، وهاجم «الحاج» مع مجموعة القرعون بالصواريخ موقع
الاحتلال في بعلول، مستهدفين مهبط المروحيات. ونفّذ (ط. ع. وم. د.) هجوماً
على معسكر القرعون، وكرّت سبحة العمليات التي أفقدت العدو صوابه، فنفّذت
استخباراته حملات اعتقال طاولت مئات الشباب في البقاع الغربي وراشيا.
قرّرت قيادة الجبهة ردّ الصاع صاعين، وأسر أو قتل ضابط الاستخبارات
الذائع الصيت ببطشه، المدعو «أبو النور» الذي نكّل بأهالي البقاع الغربي
بطريقة وحشية. يذكر مقاومون أن خطة محكمة وضعت لاستدراج ضابط الموساد أبو
النور، بعد زرع عميل لها عند هذا الضابط ومدّه بمعلومات تكون طعماً لأسره
أو قتله لاحقاً. كلّف أحد المقاومين، من بلدة مجدل بلهيص، بإيصال معلومة
إلى «أبو النور» عن وجود كمية من الأسلحة قرب قريته، وبالفعل تمّ ذلك، إذ
حضر ضابط الموساد ونقل الأسلحة. بعدما كسب «العميل» ثقة أبو النور، طلب منه
التبليغ عن كمين سينفذه شيوعيون قرب القرعون. وكما في المرة السابقة، نجح
الأمر وصار ضابط الموساد على اقتناع تام بأنه نجح في خرق المجموعات السرية
لجبهة المقاومة.
بعدها، قرّرت قيادة الجبهة زرع كمين لأسر أبو النور في مجدل بلهيص بعد
استدراجه من قبل المكلّف بالمهمة. يقول أحد المطلعين على هذه العملية
النوعية، التي نفذت عام 1984، «طلبنا من رفيقنا إبلاغ أبو النور بأن مجموعة
من الشيوعيين موجودة في منزل عند مدخل مجدل بلهيص، ويجب اعتقالها بغتة
خلال نوم أفرادها». فرز لهذه العملية ستة أفراد «في الوقت المحدّد، وصلت
سيارة أبو النور من نوع .B.M.W. ومعه سيارة مدنية أخرى وجيب عسكري ودخلوا
في وسط الكمين المحكم». يتابع محدّثنا: «ناديت على أبو النور ليسلّم نفسه
بعدما أصبح ومجموعته تحت مرمى نيراننا، لكنه بادر الى إطلاق الرصاص من
مسدسه، فبدأنا بإطلاق الرصاص عليه وعلى بقية أفراد المواكبة، فسقط صريعاً
على الفور مع خمسة آخرين، فيما تكفل أحد الرفاق بمحاولة حمل جثة أبو النور
الضخمة لأسرها، لكن ضيق الوقت ولأسباب لوجستية لم نتمكن من نقلها الى خارج
المناطق المحتلة».
■ ■ ■
بعد انتصار جبهة المقاومة ودحر الاحتلال الإسرائيلي عن البقاع الغربي
وراشيا، وأجزاء واسعة من الجنوب في ربيع عام 1985، عقدت قيادة «جمّول»
اجتماعاً تقويمياً عاماً بحثت فيه أشكالاً جديدة من خطة مواجهة الاحتلال في
الشريط الحدودي.
قرّرت قيادة الجبهة وضع جبل الشيخ ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا في دائرة المتابعة.
في أواسط ربيع 1986، كلف الشهيد جورج نصر الله (هادي) وكفاح بتولّي قطاع
مزارع شبعا وسفوح جبل الشيخ الغربية، وتوجها الى هناك حيث مكثا داخل
المزارع ستة أيام متواصلة، رسما خلالها مواقع الاحتلال في رمثا والسماقة
ورويسات العلم وبسطرة، وصولاً إلى معسكر المجيدية وموقع العباسية، ووضعا
خرائط الطرق الاسفلتية والترابية التي تسلكها آليات العدو وأنواع الأسلاك
الشائكة، ومدى إمكانية أسر جنود للعدو ونقلهم الى خارج المناطق المحتلة.
كتب جورج نصر الله وكفاح تقريرهما عن مهمتهما في مزارع شبعا وأرسلاه إلى
القيادة. بعد النقاش، تقرّر نصب كمين لدورية على الطريق التي تربط موقع
رمثا بالسماقة، ثم عدّلت الخطة بعد وصول المجموعة المكلفة بالتنفيذ، إثر
اشتباك حصل بين قوات الاحتلال ومجموعة تابعة للمقاومة الفلسطينية كانت
موجودة في المنطقة بهدف العبور إلى داخل فلسطين المحتلة. انسحبت مجموعة
«جمّول» إلى أطراف كفرشوبا الجنوبية، وانتظرت بضعة أيام حتى تنفذ مهمتها،
لكن رسالة عاجلة وصلت مع «رفيقة» أبلغت قائد المجموعة بوجوب الانسحاب
فوراً.
بعد هذه المهمة، قرّرت قيادة الجبهة إعادة تنفيذ مهمات استطلاعية جديدة.
وخطط جورج نصر الله للقيام بعملية أسر من موقع السماقة بعدما أمّنت القيادة
سيارة نقل مدنية تتموضع في أعالي كفرشوبا تنقل الأسير الى أقرب نقطة الى
المناطق المحررة بعد تنفيذ المهمة.
في أواخر صيف 1986، تسلّلت المجموعة المنفذة الى محيط كفرشوبا الجنوبي.
ولكن، مرة أخرى لم يحالف الحظ «الرفاق»، فتقرّر بدء التخطيط لعملية أسر
أخرى على تخوم المناطق المحرّرة لأسباب لوجستية. بدأ التحضير لأكثر من
عملية، نجح بعضها من دون تحقيق أسر جندي، وفشل بعضها الآخر. سجلت مواجهات
كبرى في جبل الشيخ في أيلول 1987 وتشرين الأول 1987 وحزيران 1988 حيث
استشهد جورج نصر الله (هادي) ومخايل حنا ابراهيم.
هذه العمليات، وما سبقها، ألزمت قيادة «جمول» بإعادة وضع الهجوم على مزارع
شبعا في قائمة الأولوية. كلف محمود الحجيري (بلال) وإيلي حداد (الشقور)
ورائد بإعادة استطلاع موقع السماقة. توجه الثلاثة إلى جنوب كفرشوبا ومكثا
هناك أياماً عدة، حيث استطاع محمود الدخول إلى الموقع والبقاء مختبئاً
بداخله أكثر من 4 ساعات، من دون أن يلحظه جنود العدو. وضع محمود وإيلي مع
قيادة «جمول» خطة الهجوم الذي تقرّر أن يكون يوم 10 أيلول 1989. قاد محمود
وإيلي المجموعة المهاجمة. زرعا عبوة ناسفة عند مدخل الميركافا، وعادا إلى
بقية أفراد المجموعة حيث قسّما أفرادها الى مجموعتين: الأولى تقتحم الموقع،
والثانية تتولى أمر الدبابة. قتل محمود وإيلي عناصر الموقع بالقنابل
اليدوية والأسلحة الرشاشة وسيطرا عليه لمدة 10 دقائق، فيما تولى رفيق رفع
علم الحزب، ونفذت المجموعة الثانية مهمة تفجير الميركافا بالعبوة ومهاجمة
من بقي فيها أحياء. وخلال التنفيذ، ضحك إيلي حداد الذي صرخ قائلاً: «لقد
قتلت الضابط، وهو يقول بالإنكليزية .P.L.O. (منظمة التحرير الفلسطينية). مش
عارف أنا الشقور من عكار، شيوعي لبناني». إيلي استشهد لاحقاً في عملية
نوعية على طريق دبين 1989.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غسان سعيد لم يُغادر «الزمن الجميل»
ما زال غسان سعيد يعيش في أحلام الزمن الجميل. يستحضره دائماً. رَكَلَ
المُقاوِم الشيوعي الظروف السياسية والإقليمية ملتحقاً بشعارات حزبه في ذلك
الزمن. يعلّل «فعلته» بالصدق والوعي؛ لكن أيكفي الصدق وحده لتحرير وطن!؟
أراد مجابهة العدو الإسرائيلي مع بعض الرفاق من دون مال أو سلاح، «بلا ولا
شي». فكان الأسير الأحمر الأخير
ربى أبو عمو
صاليما، حيث يقطن الأسير المحرر من السجون
الإسرائيلية غسان سعيد اليوم، تحفظ لابنها إرثه المقاوم. يتماثلان. تمسكت
بالصفات التي تجعل منها قرية نموذجية لم تلوّثها الأفكار المدينية، فيما
أبى هو التخلّي عن بطاقته الحزبية الحمراء. الماضي حاضرٌ بقوة في كليهما.
عند مدخل بلدته لافتة: بلدة المقاوم غسان سعيد. نسأل عاملاً في محطة لبيع
الوقود عن منزله، فيسأل بدوره: دمكم أحمر؟ كأن البلدة استعانت به جواز عبور
الى المحيط. كان حظّ سعيد جيداً. لم يضطر إلى اللجوء إلى أبواب السفارات
والسياسيّين لدى تحريره من معتقل الخيام. ترك وراءه بيتاً في ذلك الجبل،
وتمكّن من استئجار محل لتصليح السيارات. عاد المقاوم عاملاً ميكانيكياً، لا
يؤمن قوته من أمجاد الماضي.
بعض أهالي البلدة ما زال يسبح في الأحمر، منهم سعيد. ورغم عدم توافر
الإمكانيات المادية واللوجستية لتنفيذ أي عملية ضد العدو الإسرائيلي لدى
سلوكه هذا الخيار، فهو لا يعتبر فعلته طيشاً. «كنت في الثلاثينيات وقتها».
يسأل طفلته: «هل أخطأت»؟ تجيب: «لا». كأنها «تطبطب» عليه. يقول: «أرأيتِ؟».
يتناسى ربما الأطفال في هذه السن عاجزون عن بلورة موقف سياسي خاص بهم بعد.
ميشال، اسمه الحركي، كان مقتنعاً بكل ما قام به.
بدأ سعيد مقاومته العسكرية من خلال الحزب الشيوعي منذ عام 1982، حيث عمل
على إطلاق مضادات للطائرات في كل من عاليه وبحمدون وفالوغا وحمانا. وعام
1983، ساعد المقاومين من خلال تأمين الحاجيات اللوجستية من سلاح وطعام
وغيرهما من الأمور، قبل أن يتمركز في الجنوب (عيتا الشعب، يارين، مروحين،
ياطر، بلاط). يقول إنه «خلال عامين ونصف العام، شاركت في أكثر من 50 عملية
استطلاع ومراقبة وتنفيذ».
فجأة، ومن دون سابق إنذار، ترك كل شيء وسافر إلى الكويت. خلع الزي العسكري
الأحمر مرحلياً، من دون أن يترك العمل السياسي. يعزو السبب إلى الحرب
الأهلية، وحاجته إلى مساعدة أهله. فكّر في أنه أدى قسطه من الواجب، وبات
ممكناً ترك المهمة لغيره. دقّ ذلك الجرس الذي ذكّره بأنه حان وقت «تكوين
المستقبل». عمل في الخليج حتى عام 1996، حين قرّر العودة إلى لبنان. كأن
هذا الرجل قادر على الانتقال من مرحلة إلى أخرى بانسيابية مطلقة. بدا أنه
لم ينفصل عن الحزب أبداً. عاد إليه من حيث تركه. لم يخمد نفسه المقاوم، بل
خذله الحزب في الخمول الذي وجده فيه. وضع الظروف السياسية المحلية
والإقليمية جانباً. تناسى تغيّر المرحلة. أراد إحياء التاريخ. قرر أن
المقاومة يمكن أن تُخلق من العدم، تكفيها الإرادة. وهكذا كان. تمادى في
حلمه، ووضع نُصب عينيه تحرير الأسرى. أزعجته خيانة الحلفاء وبحثهم عن
مصالحهم الشخصية.
لم يكن سعيد وحده، بل شاركته مجموعة من المتحمسين القدامى والجدد. بدأ
الإعداد للعملية التي حملت اسم سهى بشارة، وكانت ستنفذ في 16 أيلول عام
1998، ذكرى انطلاق جبهة المقاومة، لولا الكمين الذي تعرض له ورفيقه الشهيد
بيار في الرحلة الاستطلاعية الثالثة. حافظ على شعارات المرحلة السابقة. قال
إن العملية تهدف إلى «التحرير والتغيير الديموقراطي في البلد»، و«استكمال
العمل النضالي والمقاوم الذي أسسه الحزب الشيوعي»، و«الرد على محاولة إنشاء
سرايا المقاومة اللبنانية والالتفاف على الجبهة التي كانت مقاومتها وطنية
علمانية، وعلى الطوائف وسلطة السوريين ورأس المال». كان على المتحمسين
الدفع من جيبهم الخاص. أمّنوا 8 آلاف دولار لثلاث رحلات استطلاعية.
يقول سعيد إن هدف العملية كان أسر رجل استخبارات إسرائيلي وبدء عملية
التفاوض لمبادلته بجميع الأسرى في معتقل الخيام والأراضي المحتلة. ويذكر
أنهم في الرحلة الاستطلاعية الثالثة كانوا على بعد 150 متراً من موقع زغلة
الإسرائيلي في حاصبيا، قبل أن يشتبك ورفيقه بيار مع نحو 20 جندياً
إسرائيلياً أثناء عودتهما. استشهد الأول، فيما أصيب هو في أماكن عدة وأسر
وأودع معتقل الخيام. ويشرح أن المجموعة الاستطلاعية كانت تضمّ شخصين
إضافيين تمكّنا من إتمام مهمتهما والعودة إلى الديار، والاستفادة من
المعلومات التي جمعاها وتنفيذ عمليتين ضد العدو.
خضع سعيد لقصص التعذيب ذاتها التي رافقت كل معتقل. لكنه لم يعترف بشيء. قال
فقط إن بيار هو المسؤول، وقرّرنا معاً تنفيذ العملية. حمى باقي المجموعة،
علماً بأن هاتف أحدهم وقع في يد الجيش الإسرائيلي من دون أن يتمكنوا من
الحصول منه على معلومات إضافية. لكن مشروع العملية حقق مبتغاه. تحررت بشارة
بعد 21 يوماً من أسره. برأيه، أرادت إسرائيل إسكات الشيوعيين وإبعادهم.
لا يزال سعيد شيوعياً وحزبياً فقط. لا مجال للمقاومة العسكرية اليوم.
فالعدو أصبح بعيداً. يؤيّد بقاء سلاح حزب الله، لكنه يرى أن الأخير أزاح
النزعة الوطنية للصراع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحلامهم... لم تكن أوهاماً
كان يجب أن نلتقيهم لكي نستمرّ في
تصديق أنفسنا كي لا نصدّق ما يشاع عن لغة خشبية. ها هم يؤكدون أن أحلامهم
لم تكن أوهاماً بما أنهم لا يندمون عليها، رغم كلّ شيء
مهى زراقط
البيت عادي. حديقته ذات التربة الحمراء
تشبه الحدائق التي نعرفها أطفالاً. حجارة صغيرة تفصل بين أحواضها المزروعة
بالنعناع والحبق والكزبرة. والضيافة التي توضع على الطاولة، حملها ضيف من
الضيوف الثلاثة. أما الغداء، فشاي وكعك.
هنا، في إحدى القرى القريبة من مدينة النبطية، لا شيء تغيّر. يبدو هذا
البيت وكأنه خارج الزمن. تماماً كبيوت كثيرين قاوم أصحابها بصمت، واختاروا
البقاء في الظلّ بما أنهم لم يطمعوا يوماً بمكافأة على واجب أدّوه.
يستغربون استدعاءهم إلى لقاء يستعرضون فيه تجربتهم. الطيبة التي تغلّف
أحاديثهم ليست إلا تعبيراً مباشراً عن رفض أي محاولة تجعل منهم أبطالاً. بل
إن شرط الموافقة على الحديث معهم، كان عدم الكشف عن هوياتهم الحقيقية.
كانوا ثلاثة. جلس كلّ منهم على كنبة ليروي، فيما يصغي إليه الآخرون
باهتمام. يبتسمون مرة، وينفعلون مراراً. لا. لم تكن المقاومة حلوة كما قد
يطيب للرومانسيين القول. مرارتها لا تزال تسري في العروق. تندفع في الدماء،
وتخلّف وراءها أوردةً منتفخة تطلق بين فينة وأخرى تنهيدة من تحمّل ما لا
طاقة له به.
في 16 أيلول 1982، كان كلّ واحد من هؤلاء الشباب في مكان، إلا أن المهمة
التي قاموا بها كانت واحدة: توزيع بيان انطلاقة «جمّول». وزّعوا البيان،
لكنهم كانوا قد انطلقوا في عملهم المقاوم قبل هذا التاريخ.
حسن شاهين (اسم مستعار)، ابن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بدأها منذ
العام 1978. وعندما انسحبت قيادات الجبهة إثر الاجتياح الاسرائيلي، طلب
المعونة من «الشيوعي» ليكمل ما كان قد بدأه. أما نضال وأبو عباس، فقد
انخرطا في ما كان يسمّى «الحرس الوطني» الذي شكّلته قوات الاحتلال، وكانا
عيني «جمّول» لدى العدو. قائد عملياتهم، الذي استقبلنا في بيته، كان حريصاً
على الإشادة برفاقه الذين «وافقوا بمسؤولية كبيرة أن ينخرطوا في أصعب
وأخطر الأماكن وهي صفوف العدو».
يعترف أبو عباس أنه تردّد كثيراً قبل الموافقة على هذه المهمة «فكرت أني قد
أموت، وأبقى في ذاكرة الناس هذا العميل الذي آذاهم». مخاوفه كانت في
مكانها، هو الذي تصالح قبل أسابيع فقط مع صديق عمره. قبلها بسنوات قليلة
تصالح مع قائده العسكري، بعدما اعتقله حزبه أكثر من عشرين شهراً بتهمة
التعامل.
معاناة شاهين لم تكن أقلّ. هو الذي اعتقل أكثر من مرة على يد الاسرائيليين،
وتوافرت له الكثير من الفرص لكي يغادر إلى الخليج ويعمل هناك، لكنه لم
يستطع اتخاذ قرار التخلي عن العمل المقاوم. في مرة من المرات، باع تذكرة
السفر وهو في طريقه إلى المطار، وعاد إلى الجنوب محمّلاً بالأسلحة. أما
نضال، فقاوم بصمت، متقناً لعب دور «الغبي» الذي يرتكب الأخطاء، للحصول على
مبتغاه.
المقاومون الثلاثة، الذين «اعترفوا» في جلستهم معنا «بأشياء لم يقولوها
للمحقق الاسرائيلي»، يرفضون الحديث عن واقعهم الحالي. هم الذين وجدوا
أنفسهم، بعد «انتهاء» المقاومة، عاطلين من العمل. نفهم من أحاديثهم انهم
يتدبرون أمورهم، بمهن أتقنوها، وعينهم على العدو. لهذا، لا يطيب لهم الحديث
إلا عن العمليات التي نفّذوها.
يذكر شاهين، أنه اعتقل فور دخوله إلى المنطقة المحتلة مطلع الثمانينيات، في
سجن «تلّ النحاس». من شباك زنزانته كان يرى مؤسس «جيش لبنان الجنوبي» سعد
حداد حين يزور المكان. بعد أسبوعين من اعتقاله، كان يكنس الباحة الخارجية
للسجن، ووصل الأخير. لم يتردّد في الوقوف أمام سيارته، وطلب الحديث معه.
قال له: «سمعتك مرة تقول إنك ترحّب بكل لبناني نظيف، لهذا هربت من تحت
وإجيت إلْطي (أختبئ) هون، فاعتقلت». سأله حداد: ماذا تعمل؟ فأجابه:
«كهربجي». قال له: علقت. عندي براد يحتاج إلى تصليح، إذا نجحت في إصلاحه
ستسرّ كثيراً، وإذا لم تنجح ستعود فلتكنس الطريق».
ذهب شاهين في اليوم التالي إلى منزل حداد في مرجعيون، ونجح في مهمته التي
استحق عنها مبلغ مائتي ليرة، وإعفاء من خدمة الحراسة التي كان يجبر كلّ
المقيمين في المنطقة على القيام بها. افتتح محلاً لتصليح الكهرباء، وبدأ
يبني صداقات له مع أبناء المنطقة. وفي أول زيارة استطاع القيام بها إلى
الأراضي المحرّرة، نجح في نقل أسلحة عبر «بيك آب» والده. وكرّت العمليات،
إلى حين الاجتياح. عندها، عاد إلى النبطية، ليتابع عمله مشاركاً في عدد من
العمليات الرئيسية التي شهدتها المدينة، ما تسبّب في اعتقاله داخل الأراضي
الفلسطينية المحتلة ولم يفرج عنه إلا إثر عملية تبادل.
غير بعيد عنه، كان نضال وابو عباس. الأوّل كان معروفاً في منطقته بأنه «ابن
بيت شيوعي». كان من الصعب عليه أن يقنع الاسرائيليين بأن يتعاون معهم،
لذلك بقي دائماً تحت المجهر. كلّما ارتكب خطأ ما، يوجه اللوم إليه. على
الرغم من ذلك، نجح في كسب ثقة أحد الضباط الاسرائيليين من أصل يمني. كان
ذلك إثر قيامه بإطلاق النار على دورية مشاة اسرائيلية من مكان خدمته. برّر
الأمر بالقول إنه اعتقدهم مخربين، لكنهم لم يصدّقوه. يومها، تعاطف معه
الضابط، وقال له: إذا احتجت إلى أي خدمة لا تتردّد في زيارتي. استغلّ نضال
هذه العبارة حتى النهاية. صار يزور الضابط، حاملاً معه الهدايا، مقابل
الحصول على تصاريح تسهيل مرور لرفاقه المقاومين. يذكر أنه في إحدى المرات،
قصد المركز للحصول على تصاريح، فوجد ثلاثة من الشبان معصوبي الأعين ومكبلي
الأيدي في الممرّ. تعرّف إلى أحدهم، وهو من بلدته، فاستغلّ خلوّ المركز من
الحرّاس وأطلق سراحهم.
بخلاف نضال، عانى أبو عباس كثيراً جرّاء خدمته في «الحرس الوطني» خصوصاً
أنه اتهم في مرحلة من المراحل بأنه من المتورّطين في اغتيال الشيخ راغب
حرب. هو أيضاً ابن بيت شيوعي، وشقيق لمقاومين معروفين. سمعة العائلة التي
ينتمي إليها جعلت رؤساء المركز يجبرونه على مرافقتهم دائماً، حتى أن أحدهم
كان يجبره على النوم معه في الغرفة ذاتها. لم يتحمّل أبو عباس طويلاً هذا
الأمر، فهرب إلى بيروت حيث اعتقله حزبه نحو عامين. وعلى الرغم من ذلك، عاد
وانضوى فيه، أما أولاده فهم منخرطون في «المقاومة الإسلامية». في النهاية،
السلاح واحد... سلاح مقاومة.
تجربة ملك الشعب
يتفق المقاومون الثلاثة على القول إنهم خاضوا تجربة «لا أحد يندم
عليها». وهم مستمرون فيها خصوصاً أن مهمتهم لم تنته مع تغيّر أولويات الحزب
الشيوعي. لا مجال للحديث هنا عن النقاشات التي خيضت من أجل استعادة الدور
المقاوم لهذا الحزب. زاد من قساوتها وعيهم للفساد الداخلي الذي ألمّ به.
رغم ذلك استمروا. قاوموا، بطرق أخرى، خلال الاعتداءات الاسرائيلية في أعوام
1993 و1996، وصولاً إلى حرب الـ2006. فرحوا بالانتصار الذي تحقق، بخلاف ما
حصل معهم عام 1985. يومها، عوض أن يحتفلوا في ساحات النبطية، كان كلّ منهم
في مكان... أي مكان إلا الذي يستحقه مقاوم. أحدهم معتقل لدى حزبه، وآخر
لدى حزب حليف جنباً إلى جنب مع عملاء اسرائيل، وثالث يبحث عن رفاقه... رغم
ذلك تبقى العبرة في قولهم: «ما قمنا به ملك لشعبنا... وسنكرّره لو تكرّر».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ