السبت، 22 يونيو 2013

عساف ابو رحال




عساف أبو رحال «محرّراً» مزارع شبعا






 عفيف دياب
قبل أن يحتدم النقاش حول «جنسية» مزارع شبعا وترسيمها، كان الزميل الشهيد عساف أبو رحال أوّل من أكدّ لبنانيّتها في 23 أيار 2000 مجرياً مقابلة مع اللبناني الوحيد المقيم هناك

أن تتحدّث عن ذكرى انتصار المقاومة وتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، بعد 13 عاماً، فهذا يعطيك دفعاً معنوياً جديداً في زمن فقدان الذاكرة وحروب زواريب الطوائف والمذاهب وملل المال. ملل تفعل ما في وسعها حتى تزني في فعل انتصار مقاومة كان جبناء يصفونها بالمجنونة لأنها فضحت انهزامهم أمام عدو رفع «العشرة» وخرج تحت جنح الظلام دون قيد أو شرط.
ذكرى انتصار المقاومة وتحرير الجزء الأكبر من الجنوب ليست حدثاً عابراً، أو تفصيلاً صغيراً في حياة الجنوبيين اليوم.
يحلو للبعض الرسمي وحتى الشعبي، أن ينسى، أو أنه نسي فعلاً هذا المجد العظيم المحروس بتضحيات شهداء لم ينصفهم هذا الوطن المأزوم. تجول جنوباً. ذاكرة أهل لم تخن «تحريرهم»، ولا انتصار مقاومتهم. ولهؤلاء وحدهم الحق في الاحتفال والفرح. فرح علّمهم كيف ينتصرون ويصمدون صوناً لزيتونهم وتينهم. فرح علّمهم كيف تبقى ذاكرتهم حية لا تخون، وأن الاحتلال لم يخرج بعد من مزارعهم وتلالهم حيث الرصاص اليومي يقتل بساتين كرزهم وتفاحهم ويسرق عذوبة مياههم.
في أعالي شبعا وكفرشوبا، المحتل لم يرحل بعد، والحقول الخصبة في مزارع بسطرة ورمثا والربعة وفشكول وخلة غزالة والقرن والنخيلة وزبدين وقفوة وبيت البراق ومراح الملول وكفردورة المشهد وتلال السماقة ورويسات العلم، تتمترس فيها الدبابات وغرف جند العدو ومدافعهم المصوّبة نحو حياة يقتلها برصاصه أيضاً النسيان الرسمي اليومي. مزارع وتلال نسيها بعض لبنان، وبعض آخر أزالها من ذاكرته ولم يعد يريد سماع «نصر وانتصار»، وبعض يتطلع الى استكمال مسيرة التحرير وحق مقاومة لا يضيع في استعادة أهل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لأراضيهم وحقولهم وبساتينهم المحتلة.
في ذكرى التحرير، يبقى شهيد «الأخبار» الزميل عساف أبو رحال شاهداً على لحظات عمر جميل، وحقبة من نصر مجيد كانت له بصمات في تحقيقه. حارس الحدود الجنوبية بأمانة وصدق، كان يرابط في أيار من عام 2000 على شرفة منزله في الكفير، ينتظر بفارغ الصبر لحظات الدخول الى حاصبيا وشبعا ومرجعيون وإبل السقي بعد طول غياب. يوم 23 أيار قررت وعساف الدخول الى مدينة حاصبيا المحتلة، وبث رسائل صوتية الى إذاعة صوت الشعب عن بدء تحرير القطاع الشرقي. رسائل أحدثت فعلاً شعبياً لم نكن نتوقعه. لم يبق عرقوبي أو حاصباني، مهجّر إلى البقاع أو صيدا أو بيروت، إلا وزحف نحو ميمس. حاصبيا وزغلة وعين قنيا وشويا استقبلت طلائع «الشعب» الزاحف، فاتحاً عهداً جديداً.
ظهر 23 أيار، جال عساف في شوارع حاصبيا فرحاً بالنصر. طارد دبابة ميركافا لالتقاط صورة لها قبل أن تصطدم بعمود كهربائي على طريق كوكبا ــ إبل السقي. الدبابة تهرب وعساف يطاردها. مطاردة لم تتوقف عند التقاط صورة لدبابة العدو المنهزمة. فيوم 24 أيار، كنّا أنا وعساف والزميلة هناء حمزة وفريق تلفزيوني فرنسي في مزرعة حلتا المتاخمة لمزارع شبعا. الراعي هيثم عبد العال أخبرنا أن لبنانياً يعيش تحت الاحتلال في مزارع شبعا، وأنه يمكن الوصول إلى الشريط الشائك عند مزرعة بسطرة والمناداة عليه لمقابلتنا. أقنعنا عساف بفكرة زيارة الراعي أبو قاسم زهرة الذي لم يغادر مزارع شبعا منذ أن سيّجها الاحتلال بشريط شائك سنة 1989. رحلة الوصول إلى الشريط الشائك تتطلب ساعة ونصف سيراً على الاقدام صعوداً في واد وعر. عثرت هناء على علم لبناني في مزرعة حلتا. حملته وقالت قد نستطيع رفعه فوق مزارع شبعا، أو يرفعه أبو قاسم زهرة فوق منزله.
عساف الذي وثّق تحرير منطقة حاصبيا والعرقوب، كلمة وصورة، وصل الى الشريط الشائك عند مزرعة بسطرة المحتلة. انتظر هناك حتى وصل الفريق، وتوزعنا الأدوار: ندخل أنا وعساف وعدنان والراعي هيثم إلى داخل بسطرة، وتنتظر هناء والفريق الفرنسي الآخر خلف السياج. حطّم هيثم بحجر قفل بوابة الحديد الإسرائيلية، وأخذ يصرخ «يللا فوتوا بسرعة». دخلنا ركضاً إلى بسطرة لتجنّب رؤيتنا من موقع الاحتلال في تلة رمثا.
من تحت سنديانة معمرة خرج الراعي أبو قاسم مستغرباً ومرحّباً بعدما علم بهويتنا «صرلي زمان ما شمّيت ريحة أهلي». أمضينا قرابة نصف ساعة في مزرعة بسطرة، كادت خلالها رصاصة إسرائيلية أن تقتل عساف وهو يسجل حديثاً مع أبو قاسم لنشره وتأكيد لبنانية مزارع شبعا، وأن لبنانياً وحيداً يعيش هناك رغم الاحتلال وممارسته. دورية الاحتلال الاسرائيلي التي طوّقت منزل أبو قاسم وأخذت تطلق الرصاص فوق رؤوسنا، طلبت أن يأتيها أبو قاسم. خرج العجوز المتعب من الأسر خلف الاسلاك الشائكة وأبلغ جنود الاحتلال هويتنا الصحافية. عاد اللبناني الوحيد المنسي خلف الشريط وطلب منا المغادرة فوراً. خروج واكبه إطلاق رصاص حتى أصبحنا في قعر الوادي.
قصة أبو قاسم زهرة، الصامد في مزرعة بسطرة قبل أن ينسحب بعد تحريرها سنة 2001 بترسيم الخط الازرق، كانت نصراً لعسّاف. اكتشاف حرّر قادة البلاد من جمودهم، وأصبح حديثهم الرسمي عن مزارع شبعا «لازمة» في كل خطاب وموقف. وحده عساف أبو رحال بقي يتابع يوميات أبو قاسم على مدى 10 أشهر بعد الإعلان الرسمي عن 25 أيار ذكرى للنصر والتحرير.
رحلة الدخول الى مزرعة بسطرة كانت أجمل لحظات عساف في مواكبة عملية تحرير الجنوب وانتصار المقاومة. مواكبة لم تضع حدوداً للإنسان الطيب. أصبح جزءاً يومياً من تفاصيل المزارع والتلال المحتلة. وثّق في عشرات التحقيقات الصحافية ما كان لبنان الرسمي ــ الطائفي لا يعرفه عن المزارع وأهلها وعن تاريخ مقاومة استشهد من أجل أن تبقى رصاصاتها نحو العدو.

فلسطينيو سوريا





فلسطينيو سوريا:

 من مخيّم إلى مقبرة مخيّم آخر




عفيف دياب

تقيم ستون عائلة فلسطينية نازحة من سوريا، في غرف أعدّت على عجل في مدافن مخيم الجليل في بعلبك. موضوعياً، حلّ هذا الإجراء جزءاً من مشكلة الإيواء في المخيّم، لكن ماذا عن تداعياته؟
*****
أن تكون فلسطينياً، يعني أن لعنة الأمة المهزومة من المحيط إلى الخليج ستبقى تطاردك في لجوئك ونزوحك، وستبقى تتفرّج على نومك بين القبور الصامتة وشواهد الموت. أن تكون فلسطينياً، يعني أن الحياة لا تليق بك. كتب عليك أن تبقى مشرّداً من خيمة في الوعر إلى مخيم محاصر بالنار. أن تكون فلسطينياً نازحاً اليوم من مخيمات الحزن في سوريا، يعني أنه ما عليك إلا أن تصنع من «مقبرة» أجدادك وأولاد أرضك المسلوبة، مخيماً جديداً للموت البطيء. لقد أصبح حلم الحاجة أم حسين (78 عاماً) الهاربة من الموت في مخيم اليرموك، نسمة هواء تنعشها في غرفتها الصغيرة في حديقة مخيم الجليل الخلفية جنوب مدينة بعلبك. حلم العجوز التي تعبت من الترحال هو حلم كل أقرانها في مخيم مقبرة الجليل الجديد.
اختنق مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بعلبك بقاطنيه. لم تعد غرفه ـ الزنازين، تتسع لرحيل جديد من أرض القهر في سوريا. ولم تعد مقبرة المخيم، وحديقة ما يسمى متنزه الجليل، تشكلان إلا موقعاً للجوء جديد. ستون عائلة فلسطينية تفترش أرض مدافن الجليل البعلبكي، اقيمت لهم على عجل 41 غرفة بين القبور. وحدها أم حسين تختصر المشهد وأمنية العودة الى مخيم اليرموك في دمشق: «مكتوب علينا يما نعيش متل اهل القبور»، و«محدّش بيسألهن شو مالكم... ولا إحنا كمان حد بيسألنا يما». أردفت وهي تستجدي بحبات مسبحتها ثواب الآخرة «تعال يمّا وشوف هالعيشة... يا ريت حدا يقدر يجبلي مروحة راح موت من الشوب». وتضيف ضاحكة: «إحنا يما عايشين بين القبور. احنا مش احسن من اللي ماتوا». تستغفر أم حسين الله وتدعوك للتفرّج على غرفتها «شوف يما هاي الغرفة متل القبر» تضيف: «أنت لسّا ما بتعرفش أم حسين. مش فارقة معايا أعيش بالغرفة او بالقبر المهم أرجع على فلسطين».
أكثر من 1600 عائلة فلسطينية نزحت من مخيمات اليرموك وخان الشيح وسبينة في سوريا، إلى مخيم الجليل في بعلبك. نزوح أرهق الجليل، إذ يقول عضو اللجنة الشعبية في المخيم عماد الناجي إن «قدرة الجليل على إيواء عائلات فلسطينية نازحة من سوريا أصبحت مستحيلة». ويوضح أن الإيواء هو «لبّ المشكلة التي نعاني منها»، وخصوصاً أن الواقع السكاني المستجدّ «بحاجة ماسة إلى تدخل سريع لتوفير المأوى والاحتياجات الأخرى الضرورية». ويلفت الناجي إلى أن أكثر من عائلة تعيش في غرفة واحدة، موضحاً أن إقامة مساكن سريعة للنازحين في مدافن المخيم كان «شرّاً لا بد منه». ويبدر أمله في أن تقوم «الأونروا» والمنظمات الإنسانية بالمساعدة على توفير مأوى للنازحين، مبدياً تخوّفه من ارتفاع أعداد النازحين في مقبل الأيام.
حركة حماس هي التي تشرف على أوضاع النازحين في مدافن مخيم الجليل، وقد أوضح أحد مسؤوليها أنهم اضطروا الى تشييد غرف صغيرة بين القبور وفي حديقة «الجبّانة» لاستيعاب العائلات النازحة. موضحاً أن الحاجة ألزمتهم بتنظيم إيواء لأكثر من ستين عائلة «كيفما اتفق». ويشير هذا المسؤول إلى أن هيئة الغوث الإنساني قدّمت كل ما يلزم لإنجاح فكرة الإيواء في حديقة مخيم الجليل وفي زوايا «المقبرة». لا تتجاوز مساحة الغرفة الثلاثة أمتار لكل عائلة. وإذ يعترف المسؤول بضيق المساحة، يلفت إلى حلّ يمكن اعتماد «أن يعمد الشباب إلى النوم تحت الأشجار في الحديقة». وكشف أن ضغط النزوح من مخيمات سوريا «ألزمنا بإلغاء مسبح أطفال المخيم (الجليل) والاستفادة من مساحته لتشييد غرف إيواء».
النوم تحت الأشجار وبين القبور لا يروق الفتى أحمد (14 عاماً) الذي تعب من كوابيس الخوف خلال نومه. أحمد الذي هرب مع أهله من مخيم خان الشيح في اطراف دمشق الى مخيم الجليل قبل ستة أشهر، يرهب أقرانه بكوابيسه. تتحدث والدته عن ليالي ابنها وخوفه الدائم من فكرة النوم على مقربة من الأضرحة. ابنة مدينة صفد التي ولدت في مخيم خان الشيح قبل أربعة عقود، تجد في اقامتها القسرية بين قبور مخيم الجليل «مكاناً آمناً» وأفضل من البقاء تحت القصف اليومي في سوريا. وتقول جارتها في غرفة ملاصقة شيدت قرب ضريح، ولد صاحبه في فلسطين سنة 1945 واستشهد في جنوب لبنان سنة 1981، انها كانت تتمنى لو بقيت في اليرموك ولم تسكن في مقبرة بـ«آخر هالعمر». وتختم أم عمر (47 عاماً) «تعبنا من المذلة يما. والمصحف الشريف تعبنا من المذلة».