الاثنين، 13 فبراير 2012

من قصص الثورة السورية


من قصص الثورة السورية (1)


 
     رواها: عروة  من درعا
    كتبتها: شروق احمر ـ دمشق 
 
   أضاءت السماء واشتعل الشرر بالعتمة الداكنة. ومن النافذة الضيقة تسربت رائحة الرماد إلى رئتيه الضيقتين. ولأول مرة كانت روحه خارج جسده. يستشعرها تتسرب من المسامات الضيقة الآخذة بالإتساع. تماوجت الأخيلة في رأسه وكأن الأشياء من حوله كانت ترقص. رقصت الجدران والأبواب والأضلع الرقيقة التي كانت تسند بقايا جسده. وفي خدر النعاس اللذيذ المرسوم على السرير الدافئ نهض وعيه كاملاً يحمل رؤية عميقة ارتدت من أكثر الأماكن غرابة في ذاكرته. لم تكن ذاكرة. كانت خليطاً معقداً من المشاعر التي اختزنت في جميع أنحاء جسده منذ اللحظة الأولى التي لامست أصابع أمه جسده الصغير قبل 25 سنة. حينها ابتسمت تحت وابل حبات العرق المتساقطة من فوق جبهتها بعد عراك طويل مع المخاض المؤلم. وأحنت بأصابعها المرتعشة على بشرته البيضاء الرقيقة التي اشتعل الدم من تحتها كأنها مجرة جديدة تتفجر في أنحاء الكون.
 *
 استشعرت تلك الغلالة الرقيقة التي صعدت من روحه خلف الشاشة المستطيلة. كانت تتسرب من ملايين البلورات الزجاجية المتماوجة بآلاف الألوان والأشعة. وسكنت روحها تلك المشاعر التي أعيت جسدها وأردتها صريعة هذيان مستمر استمر طوال الساعات المقبلة. وهدت الدموع جفنيها المتورمين. لقد استشعرت روحه الرقيقة تولد في حنايا جسدها المرتعش. لم تكن نشرة الأخبار قد انتهت عندما نهضت لتتقيئ العالم بأسره بكل قذارته.
 *
  لم يستطع أن يحدد المسافة بالظبط، لكن أرقاً ما أصابه. لقد كانت البندقية التي بين يديه تشتعل وتنصهر تحت دفق من الصور المتسارعة. لم تكن حمى. إنه شيء ما مختلف يعيشه الآن. لقد سقطت السماء على أضلعه منذ اللحظة الأولى التي أشعلت فيها القذائف المباني المترامية على مد ناظريه. لقد كان لهيبها يحرق كل أزقة اللعب المفروشة بشتى أنواع الضحكات العابثة والخبث الجميل. كانت تستعر وتتلظى وتوقفت بالظبط عند صورة صالح الذي قطعت القذيفة كل أطرافه وتركت صدره الهزيل وبقايا ملامح وجهه الناعمة. لقد شعر بأنفاسه الأخيرة تتبخر وتطفئ أخر ذكرى له عن طفولة بعيدة. 
*
  أمواج متلاطمة كانت تتسارع وتعبر تلك المحيطات الواسعة. وكان ثمة رماد رقيق قادم من أقسى الشرق. تسلل في عتمة المساء إلى الشقة السابعة في إحدى ضواحي لندن. وبعثت تلك الرائحة في نومها أحلام بعيدة. كان ذلك منذ أكثر من 25 سنة. حينها كانت تجاهد لأن تبقى حية. لقد أرادته بكامل كيانها. لقد كان هو الذكرى الوحيدة المتبقية من زوجها الذي توفي إثر الأحداث الدامية التي وقعت في مدينة حماة. حينها كانت في شهرها التاسع. وقبل أولى الإنفجارات التي هزت أطراف المدينة كان سعد قد وضع يديه على بطنها المتكور وداعبه بحنو وقال لها. سأسميه صالح. وابتسم لها وخرج ولم تره من وقتها. ثلاثة أيام استمر مسيرها المتواصل بعد أن اغتصبها أربعة جنود. لم تدر كيف وصلت إلى بيت أهلها في حمص. وطوال الطريق كانت تدق في رأسها فكرة واحدة. صالح سيعيش. كبر صالح وسافرت به إلى لندن لتهرب من تلك الذكريات الأليمة التي أورثت في قلبها ندوب كبيرة. ولطالما رأته عنيد كوالده ولم تستطع أن تلجم جموحه. ومنذ اندلاع الثورة أراد العودة إلى سورية. قال لها حينها. أريد أن أعود يا أمي ثمة ولادة جديدة تحدث هناك. أريد أن أكون بين أهلي في صناعة المستقبل.
*
 نهضت من نومها كالممسوسة وأدارت التلفاز على إحدى المحطات العالمية. كانت تلك الدقائق القليلة التي لزمتها لتستوعب ما تشاهد تقارب دهراً كاملاً. حينها كانت صور لقذائف متوالية تنهال على المدينة. وعلى الشريط الأحمر في الأسفل كتب قصف عنيف لأحياء مدينة حمص.   كان وجهه مستلقياً على ذراعه اليمنى. وبالرغم من أن جسده قد هرم وترك الزمن أقسى الأثار على عظامه الهشة إلا أنه استطاع الزحف تحت الأنقاض وينتشل تلك اليد التي كانت تمسك بورقة تكاد تحترق. لم يعرف كيف رفع تلك الأكوام من الطوب عن وجهه. لم يكن قد تشوه بعد. كانت ملامحه كاملة. وثمة بعض الندوب الصغيرة على وجهه. لكن جسده كان قد تمزق بالكامل. استطاع حمله. لقد شعر بوهج روحه يدفئ أطرافه المتكلسة ويدفعها لعبور كل تلك المسافة للوصول إلى المشفى الميداني. انه يعرف هذا الوجه. وفي زحمة الصور والمشاعر نقب جيداً عن تلك الابتسامة اللطيفة المرتسمة على شفتيه. حينها بللت الدموع وجنتيه. وسالت على الشعيرات البيضاء المنسابة على الغضون المتجعدة. طوال الأيام الماضية كان يراه في الصفوف الأمامية للمظاهرات. الجميع يعرف أنه عاد من إحدى الدول البعيدة ليشارك في الثورة. وأينما ذهب كان يراه يقوم بعمل ما. تارة يصور وتارة أخرى يساعد في التحظير لمظاهرة. أو يناقش بحماس شديد الشكل الذي سيكون عليه البلد بعد ساعة النصر. الذكرة الوحيدة التي كان يحملها عن هذا الشاب في صغره. والدته التي عادت من جحيم الأحداث الدامية في مدينة حماة والتي كانت تلاحقه بخوفها أينما كان يقفز في الأزقة. 
*
  ضمه إلى صدره كأنه أحد أولاده الأربعة المتوارين في أنحاء المدينة بسبب الاعتقالات المستمرة وبكى كل تلك القسوة الغريبة التي يستطيع أن يحملها الإنسان في داخله ليستطيع أن يصنع كل ذلك الدمار ويقتل هذا الوجه الجميل.
 كانت البندقية ما تزال بيده عندما خرج من المشفى الميداني، وكان الرماد ينتشر في كل الأحياء والتكبير يعلو المآذن. سار بسكينة لم يعهدها من قبل. طوال تلك الأيام كان يتجنب الإشتباكات الميدانية. لم يرد أن يطلق رصاصة واحدة ومنذ اللحظة الأولى التي وجد نفسه قد أمسك البندقية كان يبتهل إلى الله بان يصحوا ويتوقف كل هذا القتل. لكن الله لم يستجب إلى تلك اللحظة. انزوى خلف إحدى الجدران المتهالكة. ومد بندقيته حيث استقرت بثبات بمحاذات الجدار وأرخى يده على الزناد، فاختلط صوت الرصاص بصوت الإنفجارات والتكبير والبكاء والعويل وكأن جنوناً ما قد حل بذلك الجزء من العالم..
                                                                                                                                        (قلم رصاص)

شذرات



        شذرات
 وحين أقول سأنساك يسقط المطر..

  فهل رأيت غيما تيّمه البشر ؟

 بقيت كنبيذ غسلته العتمة..
 فأدمن المسافة بين الكرمة وفائض الكأس !
 ينحني اللّيل ليجمعها ثمّ يذوب في النّهار مجدّدا..
حروف إسمك تتحرّش بأصابعي  كلّما عانقت بياض الورقة!
كأنّي لمّا تلامس حلمي أغدو قطعة ليل تأبى الإنتهاء..
كيف لمزاج الأرض أن يتغيّر فتشرب بدل الدّماء ماء ؟
 خْيّل إليك أنّك قتلتني..  وأنا  من زرعك في رحم المجاز !
 كم هي عدوّ مستتر هذه الحوّاس  لو خالفني فيك بعضها
لأعلن الباقي عليها الجهاد !
                                                                        بثينة الزغلامي ـ تونس
  * (هايكو)