«الحاجة أم
الاختراع»... كرتون وبقايا أخشاب وزيوت مستهلكة للسيارات للتدفئة
النازحون
السوريون ... هربوا من «النار» فهل «يفترسهم» الصقيع؟
بيروت - من عفيف دياب |
.. في مزرعة كانت سابقاً مخصصة لتربية الأبقار وتحولت غرفاً لايواء النازحين
السوريين الى سهل البقاع اللبناني، تخوض «ام خالد» معركة وقف تسرُّب مياه
الامطار الى الغرفة التي خُصصت لها ولافراد عائلتها المؤلفة من زوج مريض و4
اولاد كانوا يرتجفون من البرد القارس الذي بدأ يضرب البقاع.
لم تعتد ام خالد على هكذا «حياة» قاسية يوم كانت في مدينتها حلب قبل ان تنجو
من قذائف المدفعية وغارات المقاتلات الحربية. تحكي بحزن قصة حياة لم يُكتب
فيها يوم هادئ منذ ان غادرت بلادها قسراً الى لبنان. في هذه الحكاية تجد في
«حربها» مع فصل الشتاء «معركة مصير» لها ولاولادها وزوجها المريض العاجز عن
العمل بعدما خضع لاكثر من عملية في القلب.
قلب ام خالد الذي استوعب قسوة قتل النظام السوري ليومياتهم الجميلة في حلب، لم
يستوعب بعد قسوة المؤسسات الانسانية وهيئات الاغاثة اللبنانية والعربية
والدولية التي تقف عاجزة عن تأمين الحد الادنى من متطلبات حياة آمنة في غرفة
صغيرة تشبه «قبراً» كما تحب السيدة الحلبية وصفها.
اكثر ما يقلق ام خالد وأولادها اقتراب موسم تساقط الثلوج والحاجة الى
«مقاومته» بالتدفئة. وتقول السيدة التي لن «تنهزم» ان المدفأة التي تتوسط
الغرفة ليست الا شكلاً هندسياً «قد يُشعرنا وجودها بالدفء»، وتضيف «لقد أشفقتْ
عائلة لبنانية علينا ومنحتنا هذه المدفأة ولكن من اين سنحصل على المازوت
لتشغيلها؟».
وتشكّل معاناة هذه السيدة عيّنة مما تواجهه آلاف العائلات والأسر السورية
اللاجئة الى سهل البقاع اللبناني والتي تقف اليوم عاجزة امام زحف البرد وهطول
الامطار وتدني درجات الحرارة.
يتدبّر السوريون اللاجئون توفير المأكل والمشرب، ولكنهم الآن يقفون عاجزين
امام توفير التدفئة المطلوبة خصوصاً شراء مادة المازوت التي يصل سعر الصفيحة
منها الى 18 دولاراً اميركياً وهي لا تكفي ليومين لمواجهة البرد القارس. وتقول
جهات متابعة في هيئات اغاثة دولية تعمل في منطقة البقاع ان توفير المازوت
للعائلات الهاربة من سورية «غير ملحوظ في برنامجنا حتى الان، ولا يمكن لنا
توفير المساعدة في هذا الامر».
وتكشف هذه الجهات لـ «الراي» ان قراراً لم يصدر بعد من المؤسسات الدولية
الرسمية لتوفير المازوت للعائلات السورية اللاجئة الى لبنان، عازية الامر الى
ان الامكانات المالية محدودة.
تقاعس هيئات الاغاثة عن توفير «التدفئة» للسوريين اللاجئين، لا يقف عند هذا
الحد، بل يصل الى تخبط تعيشه هذه الهيئات والمؤسسات التي لم تنجز بعد عمليات
احصاء أعداد اللاجئين في سهل البقاع. وتوضح اعمال هذه المؤسسات والهيئات ان
مكاتبها في البقاع ليست سوى ادارية تتعاطى مع اللاجئين السوريين بفوقية وصولاً
الى ابداء التذمر من اصرار اللاجئين على الاسراع في وضع حد لفوضى الاغاثة
وتوفير المساعدات ولا سيما مع بدء فصل الشتاء.
ويكشف رؤساء بلديات قرى لبنانية التقتهم «الراي» في اكثر من منطقة بقاعية ان
قدرات بلدياتهم لا تسمح لهم بتوفير مادة المازوت للعائلات اللاجئة القاطنة في
قراهم. ويقول رئيس بلدية في سهل البقاع الاوسط انه ألزم اهالي بلدته بان يؤمّن
كل شخص منهم عدة ليترات من المازوت لعائلات سورية لاجئة. واذ يوضح «نستطيع
الزام الاهالي لمرة واحدة، واكثر من ذلك لا يستطيعون»، يشير الى ان «المؤسسات
الدولية وهيئات الاغاثة لم تعط آذاناً صاغية لنا حين بدأنا بمناشدتهم
الاستعداد لتوفير مادة المازوت للسوريين اللاجئين». ويضيف: «ان البرد القارس
سيصيب اللاجئين بأمراض متنوعة ونحن نقف عاجزين. واتصالاتنا مع الهيئات الرسمية
اللبنانية لم تعط نتائج حتى الان لتوفير المازوت».
معاناة العائلات السورية في سهل البقاع مع بدء فصل الشتاء، لا حدود لها. ففي
بلدة المرج يقطن السوري محمد وزوجته وطفليْهما بعدما هربوا من منطقة تلكلخ قبل
عدة اشهر.
فَقَدَ محمد شقيقه نتيجة قصف منزله، وانقطع التواصل مع والدته المجهولة المصير
في تلكلخ. يرفض ان يذهب الى مركز اغاثة دولية لتسجيل اسمه، ولكنه لم يرفض
«منحه» مدفأة من جار لبناني لا يختلف في فقره عن حال محمد.
ويقول اللاجئ من تلكلخ انه سيكتفي بـ «منظر الصوبيا» في وسط الغرفة ولن يقوم
بإشعالها، موضحاً انه يمضي جل وقته ملتحفاً اغطية ويتابع مجريات التطورات
العسكرية على ارض بلاده. ويضيف: «حالتنا صعبة جداً ولكن لن استعطي من احد
لمنحي المازوت. هيئات الاغاثة تتفرج علينا وتريد اذلالنا وهذا ما لن أقبل به».
ويكشف الرجل الاربعيني ان عائلة سورية قريبة له «عادت الى تلكلخ ورفضت ان تبقى
هنا منتظرة الموت من البرد. وانا سألحق بهم قريباً».
لا احصاءات دقيقة اليوم في سهل البقاع لأعداد العائلات السورية اللاجئة الى
المنطقة، ولا لتلك التي عادت الى سورية لمواجهة الموت بدل «المذلة» هنا نتيجة
تقاعس المؤسسات الدولية والانسانية.
وتشهد قرى البقاع يومياً تدفق المزيد من العائلات الهاربة من القصف والغارات
الجوية، وعودة البعض جراء القهر. ففي بلدة سعدنايل اليوم اكثر من 1200 عائلة
سورية لا توجد منازل لاستيعابهم حيث في البيت الواحد اكثر من عائلة تحتاج الى
المازوت. نسوة وأطفالاً ورجالاً عادوا الى ارض المعركة. وهكذا الحال في بلدة
عرسال حيث يوجد اكثر من 1600 عائلة تعيش بلا تدفئة، فيما الاحصاءات الاهلية
المحلية تتحدث عن وجود اكثر من 100 ألف سوري لاجئ فقط في منطقة البقاع اكثر من
نصفهم لم يسجَّلوا في جداول الهيئات الانسانية ومؤسسات الاغاثة ولم تلحظهم
الحكومة اللبنانية التي لا تعطي أرقاماً دقيقة عن اعداد اللاجئين السوريين.
ويكشف متابعون في سهل البقاع ان غالبية العائلات السورية اللاجئة هي من النسوة
والاطفال، وبالتالي فان امكان قيام احد افرادها بالعمل لتوفير الاموال لشراء
المازوت محدود جداً. وتقول سيدة لاجئة من داريا في ريف دمشق وتتخذ مع اولادها
السبعة مقراً للاقامة في محل تجاري سابق حوّله صاحبه الى 3 غرف للسكن، انها
تجمع الكرتون يومياً لاشعاله في المدفأة مع بقايا أخشاب كان يمنحها اياها صاحب
منشرة بالتساوي مع جيرانها في المحل التجاري. وتقول أم عبدالله ان «صاحب
المنشرة لم يعد يستطيع تقديم ما يلزم للتدفئة فاضطررت لجمع الكرتون»، مشيرة
الى «اننا مع بدء ساعات المساء الاولى «ننزل» جميعاً تحت الاغطية ونختبئ من
البرد القارس».
ما توفره أم عبدالله لاولادها من كرتون للتدفئة، نجح الحاج احمد خ. من حمص في
التفوق عليها فيه. فالرجل السبعيني القاطن في غرفة في سهل قب الياس استطاع جمع
كميات من زيوت السيارات المستعملة يستخدمها في اشعال المدفأة. ويقول الحاج
الذي يعيش مع أحفاده الستة ان هذا الحل الذي توصّل اليه «سيقضي علينا لاننا
نتنشق روائح سامة». ويختم ضاحكاً: «اذا ما متنا من القصف راح نموت من الزيت
المحروق».
|