- في المقهى الثّقافي...
قد يكون تاريخ الحبّ في عمري بعدد ارتسام البسمات على وجه ثغري...
قابلتها في حديث للرّوح و بين زهر الأنغام و فصول الكلام و ألحان الغرام... كان في الحقيقة لقاء الكلمات بالمعنى، لقاء الحروف بأشكالها، لقاء الصّدر بالعجز، لقاء البيوت بقوافيها و لقاء العناوين بنصوص معبّريها...
في بداية اللّقاء جالسني الحزن، بعثر أوراقه فوق طاولتي الفقيرة، راهنني و كسب الرّهان بالورقة الأخيرة. سألته بعد أن بادلته التحيّة المسائيّة: هل تعرف متى يأتي يوم أفرح فيه؟؟؟؟
أقلقتني إجابته الحتميّة : يوم لا تحزن فيه أو لا تشعر فيه أنّك وحيد... يوم تقابل روح الإله في امرأة تعشقها و يوم تكون أنت إلاهها الوحيد، فتصلّيان سويّا شكرا للّه أو يوم ينزل البشر جميعهم دموعا و لا ترى إلا عيون الربّ ترعاك دون جفاء....
انطفأت الأضواء، ثمّ أشرقت في لحظة ما و تقدّمت آنسة في عمر الزّهور لتعلن عن قدوم الشّاعرة المبتدئة المعلن عنها آنفا في ذلك المقهى الثّقافي...
كنت أتسامر مع الحزن و لم ألتفت إلى أحد و لا إلى الصّوت القادم من أعماق الشّرق إلى أن استوقف مسمعي قولها:
"لعمري أنّ هواك ليس بمسرف وإن تعنّى قلبي فليس بمعترف...
فما رمقتني بلحظ ولا ناشدتني زيارة بمزدلف....
تسامرت و أحرفي نشرب كأس الصّبر المتأفّف...
فأشار لي بأن تعنّي فأهل الهوى لا يسلم منهم حتّى الشقيّ ...
فسرت الهوينة أعصف بريحك و تعصف بي...
لعلّ من دموعي تعصر خمرا يسكرذا القلب العفيّ...
ولكنّها ما عرفت يوما أنّه ما من مسعف...
فروحك بالطّيب تفوح و قلبي في ذكركم مستأنف."
كانت خطوط صوتها ممتدّة واضحة... نورها واسع المدى و إشراقته يختزل فضاءاتها...كانت إيقاعات حروفها مختلفة و حسّها راق و ممزوج برقْتها الأنثاويّة الشّكل و المحتوى.... في إشباعاته شموخ و في ارتفاعاته علوّ و تحليق إلى الأعلى. أمّا انحناءاته، فتَظهر رشاقة و زهدا و خشوعا.. ف" كأنّ خطها أشكال صورتها، وكأنّ مدادها سواد شعرها، وكأنّ قرطاسها أديم وجهها، وكأن بيانها سحر مقلتيها، وكأن سكينها سيف لحاظها، وكأن مقطعها قلب عاشقها".
كانت همذانيّة بكلّ رسم لها...بسيطة في كلّ شيء، تظهر تربيع و أناقة هندستها في كثير من التّفاصيل: كوفيّة بأتمّ معنى الكلمة.... بل إنّ كمالها ملأ الفراغات جميعها و تجاوز مداه و دلاله و تناسقه كلّ الأركان... فرقص رقصة أندلسيّة تشبه قصورها و علومها...
استدرجت شجاعتي لدعوتها و لكن ما وصلت إلّا هتافات قلبي إعجابا بها، فقلت: في حضرتك يا سيّدتي، تنطقني الحروف مثل تسابيح في ليل عيدك.. في حضرتك يا مولاتي تبتهج القصور و تنبعث من روحك موسيقى ترقصُ ورودا تنشد موشّحات في وصف قدودك... في حضرتك تلفّني نار من شعاع شمس لهيبك... في حضرتك تشربني الفيافي فأرتوي من بحر عيونك.. في حضرتك يستنجد صممي بمكتبات و قواميس حروفك، فيتنهّد عمقي و يتهجّى في وصف سطور مكاتيب ورودك... في حضنك يبحر الشّاعر في بحور شعورك، فيصبح البسيط إعجازا و الكامل عمق قصيدك...
هي الحسناء بشكل الأوركيد: لقّبها الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس)بـ"زهرة عطر الملوك"، وكأنّه عرفها قبلي، فأولى اهتماما أعظم منّي بها ... وكأنّها تهديينا بعفافها و عفّتها الحياة و المستقبل الجميل... تعشقها الألوان بعمق عشقنا لها، فترتفع أعيننا لتراها في اكتمال قوس قزح ... هي الأصيلة بتاريخها و الرّفيعة برفعتها و سموّها... هي اللّوحة الأحلى في عزفي هذا والبراقة القوية الهادئة...
تمثّلت لي في صورة أخرى عند تغيُّر ألوان ضحكتها بل ابتسامات أبياتها، رأيت فيها سحر زهرة "التوليب" الحمراء إذ كبر اهتمامي بها و غرامي لها... و كأنّها سلطانة في تدرّج طبقات جاذبيّتها... و كأنّي أنا ذلك الشّاب المتلهّف الخائف من ضياعها أوخسارتها، فيلقى هيامي بها حتفه...
أكملت قصيدتها الأولى و الثّانية و الثّالثة و أنا ما زلت أنظر و أرى و أبصر.... نسيت الحزن بمركّباته وهي تبعث بغمزاتها عبر قسمات صوتها ودعواتها قائلة: تأمّل سماء عيوني.. و بحر انعتاق الحروف في حدودي.. تأمّل شراهة المفاتيح عند دندنة رقّ و عود.... تأمّل غناء و ترتيل حبّ لإله قريب بعيد..... تأمّل طيفي وهو يغطّي جسدك عند السّجود... تأمّل لغات الورود... ترى في كلّ حرف من بتلاتها ودّ و جود... اغمض عيونك و تأمّل نعاس العناق يلثمك مثل الوقود... لا تحتر كثيرا فالصّمت كلام الوجود...
تعانقنا طويلا بعد اللّقاء، فحبيبتي لاقيتها بعد طول عناء... هي التّي فقدتها منذ الشّتاء و هاهي تعود إلى أحضان حبيبها المشتاق...
لم أكن أحلم يا رفاق، فهي استجابت لندائي و للدّعاء....
كنت حضورها و كنت الوحيد الذّي صفّق لها و الذّي جازاها بالانحناء...
هذا عيدي و حبيبتي... فاذهب يا حزن و تعال يا حبّ بكلّ حروف النّداء...
(رحاب السّوسي)
الأحد، 18 ديسمبر 2011
في المقهى الثّقافي...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق