الخميس، 2 فبراير 2012

الكتابة على ضوء البندقية - 3


                                    الكتابة على ضوء البندقية - 3
 
خرج و عاد ثمّ رجع و لم يعد...
بعد سلسلة من المداخلات أحسستني غارقة في شوقي. جميع متاهاتي تحاكي أسئلته. في مجلسه مع بقيّة الدّكاترة و المحاضرين كان نجمه ساطعا و ناره توقد رماد العشق. فكان ثوبي يأرّقه قدوم الآنسات من القاعة المجاورة أو من الأساتذة وهم يحلّقون بزهره و أنا نجمتى آفلة عاجزة.
الوقت حان للغداء، فتجمهر الكلّ و بقيت و صديقتي نتجاذب الحديث حول ما قيل و حول إمكانيّة حضوري في النّدوة الشّعريّة المسائيّة..
دخلنا إلى المطعم وتناولنا ما لذّ و طاب من حسن ضيافة و كرم عربيّ. فما أكلناه كان علاقاتنا و بحوثنا السّابقة و الجارية و حتّى المستقبليّة..
كانت طاولتنا تونسيّة مصريّة. جلنا في ضحكاتهم و نكتهم والتقينا في أشعارهم. فأبحرنا سويّا على مراكب النّيل نشتم سرّا سياستنا و نعلن جهرا طاعتنا و أكلنا البطاطا وحتّى قشورها باتت لنا ممتعة سافرة ، فإذا بقاهرة المعزّ تفتح لنا أبوابها وب"عين شمس تصبح على أبواب قرطاج الرّومانيّة. فاغتسلنا في حمّاماتها. ثمّ تعطّرنا بنسيم جبالها. و طرنا بين الشّجر عصافير تغنّي وتروي تراث أجدادنا بحكايات شعبيّة و ملامح فرعونيِة بأهازيج شرقيْة و عَبارات ضحكاتنا العربيّة، فنعود من بعد كلّ هذا لنبحر من جديد من هنا إلى هناك و من هناك إلى هنا..
فإذا بعيوني تسقي عيونه بين حين و حين، فتغرق في يمّه الأخضر و في شَعره المعطّر الأشقر. يحرّك تلك الأنامل ليذوب سكّرها في عطشي. فيسكرقلبي في كل رشفة من شايه الأحمر. خصلات النّعناع تتدلّى من كأسه فتلمس ذلك الشّارب الأصفر...
دعاني إلى كوكبه بعد أن سهوت، فبعث لي بصورة تكاد تشبهني:
أنتِ دمشقيّة الهوى، ورديّة الجوى، حمصيّة الرّضى، جوريّة الغوى، عسليّة النّوى، قمحيّة الرّدا، عربيّة الوفا...أنتِ يا سيّدتى أندلسيّة العلا.. فألقى قصيدته و الثّواني تلهث وراء قلبي في سباقاته و البحور تخنقها الشّواطئ في زمني :
إلى قمري
إلى النّور السّاكن فيكِ يا نظري
إلى الوهج السّاطع من قممكِ يا عمري
أبعث بأشواق طليتها بدموع من الصّبر....
إلى شمسكِ الحارقة ، إلى أملي
و إلى السّنابل الرّاتعة في الجبل
أبعث بنسيم قرطبيّ ليسكر في العسل...

على أبوابك السّبعة تضاء قناديلي
فيخترق آذانها قرآني و انجيلي
فأركع لدعاء أجراس الأساطيل
فأتخيّل كثبان الجيوش الأبابيل
تركض قادمة من القيروان بالأحصنة و بالفيل
و الأميرات وقد تعطّرن بمسك الواد الكبير
فتنقّلن بين جنان النّارنج و الإكليل...

يا سماء بلوريّة الأوطان
ويا ياسمينة بيضاويّة الأغصان
و يا قمرا ذهبيّ الأشجان
و يا حياة فردوسيّة العنوان...

ابتسمي إلى مطري
و تعرّي على شطآني
غوصي في نغمي، ففيه تحرق أوجاعي
فكلّ ما تركته من نقش على حجري
ذاب في أغاني الغجر فألبستهم أثوابي
تغنّي بالقمر و بالموت و بحصان أجدادي
فأنا أحارب حزن ذكراك في قلمي
و في رقصي على قيثارة أصنامي..

سألته: أتحبّني؟؟؟؟ و قبل أن ينطق بالجواب أجابتني عيونه: أفيستحقّ المحبّ هذا السّؤال؟؟؟؟؟!!!!! وهل يبرّر صمته في شغفي لسماعه هذا الفطام؟؟؟ فكم تمنّيت أن أتوهّم حرفا يقوله في هذا الانسجام أو أن يشير "نعم" بطرف عينه دون كلام أو أن ينزح عنده هذا الغرام، فتقرّ عيني لعشقه فيدقّ سهم عيونه باب الوئام..
تردّدت حينا و أشرت له أنّ ارتباكي لا يحتمل الظنّ و الشكّ و الإشتياق و إنّي صرت امرأة حبلى بالأمنيات. فصار يحدّثني كأنّي رضيعة يوم لا تفقه عيونها إلّا الخيالات .حضني و سكني على يساره بين دقّات المفردات. فحتّى المعاجم اختزلت رقّته في النّظرات. فصرت أنا القلم الذّي يعتقه من الانفلاتات.
فقال: تعالي نسافر إلى كواكب أخرى من الأرض المريضة المحرومة من حبّ الكائنات إلى باقي المجرّات. تعالي نغنّي أغاني الشّمس الملهمة للانفجارات، فقلبي تعنّى من ضباب الرّؤية وزمهرير اللّغات. تعالي نغزل معا ماءا حريريّ الوصفات لنعيش في دنيا من نورالفراشات..
سمعت صوته يدغدغ سمعي ووهمي قائلا: أين ذهبت؟؟؟؟ هل ستشاركيني اللّيلة النْقاش حول السّياسة و الدّين؟؟؟
و كأنّي كنت أطوف بحرمٍ لا أعرفه أو آمنت بربّ لا أفهمه أو صليّت لكتاب لا أقرأه.
كنت أراني في تلك اللّحظة سَكَنَه و"مكحلة" تزيّن نهاره البارد في المقهى المشرف على المسبح . انظمّ إلى مجموعتنا ليشربني على مهل وبحر من السّماء يضحكنا تسارع موجه الهاطل أو ربّما بنفسجة تلقي بغصونها و جذورها و فروعها لتحرسه من الغمام القادم من دخّان سجائرهم الوقحة .و أنا كالعارية في العاصفة يهزّني ريحه، فيعصف بثلوجه المبعثرة بين خصلات تلك السّنابل، فيختلط الحابل بالنّابل كنظري و بصري وهو يداهمني بأسئلته . هو بجانبي يصلّي بمحرابه و أنا أطوف بكعبة ينام في رحمها رسولي أنا. هو يبتسم لزرعه و أنا أقهقه لصحرائي القاحلة.
لم أدرك ما قاله في حضرتي و لم أفهم وشوشاته ولا حسبتُ أن أقول له: كم عندك من طفل. فأجابني : ثلاثة..
و كأنّه تمتم أنت حبيبتي أنا... لكن هاهم أولادي يجلسون بصورهم في جيبي وينامون في قلبي و هذا يعني أنّ خلدي أسكنه الجفا و أنّي مهما تحمّلت من حلاوته سينحلّ جلدي في هذا الفضا..
ابتسمتُ رغما عنّي و ابلعني الحزن شظايا قلب تحطّم، فصار غيمي يلوّن عشقي بلون داكن يشبه دمي المكرّر. آه كم تمنّيت الصّياح آه لو كان البوح مباح و الصّياح براح و العشق كفاح. لكنت أطلقت رصاصا على قلبي ليسبح في سراح الجراح . آه كم تمنّيت الفرار من جفاء عيني و نفرت من صحو و صاحبت المطر، فيعلّم دمعي البكاء. كم تمنّيت العمى، فعيونه بأنهار الحنان تجري و بعشقه لحبّ علّمه معنى الوفاء.
أشرقتُ رغما عنّي وقلتُ له : "يربوا بعزّك و إنىشاء اللّه تظلّك تاج راسن".
                                                                                                 (رحاب السّوسي)
  • ـــــــــــــــــــــــــ                                                                           تونس

ليست هناك تعليقات: