أحاديث الناس... قنابل موقوتة
د. فايز عراجي – رئيس حركة وعي - لبنان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في دائرة
دخل عابسا" متجهّم الوجه. ألقى السلام على الحاضرين ثم دخل الى الغرفة
المجاورة. ما لبث أن عاد والانزعاج ما زال باديا" عليه. "تشرب
قهوة" سألته احداهن، أومأ برأسه علامة الرفض. رفع بنطاله وقال: " شو
هالبلد التعتير.... مبلشين دق بالطايفة السنية.... كل ما واحد سني ربى دقن بيقولو
عنو دغري سلفي (مع العلم أنه غير ملتحي)... شو هالاجرام هيدا.... بطعمونا أكل
مسمّم... ناس بلا ضمير". استدار ليجلس مع الحاضرين. بدا الانزعاج باديا"
على احداهن بعد أن استوت في كرسيّها قريبا" من المدفأة. قال: " يلاّ
كلّو منكن.... كلّو من الجنوب... ما بتشوف غير مواد غذائية فاسدة عم تنكب بالمزابل
في قرى جنوبية.... شو بدكن تقتلونا بعد بالأكل" متوجها" اليها. ثار
جنونها: " لك ما تقول هيك.... شو نسيت المواد الفاسدة في الطريق الجديدة....
والدواء في مجدل عنجر.... خلص ما بقى تحكي وتهاجمنا". كان جوابه جاهزا":
"أنا ما قصدتكم... عمبقول بالجنوب... شوفي التلفزيونات... شو ما عمتحضري
أخبار". ثم علا الشجار والتلاسن حتى ظهر رئيس الدائرة فهدئ الجوّ قليلا".
في جامعة
كنّ مجتمعات في غرفة الأساتذة يتابدلن أطراف الحديث. صادف أنهن من فصيل
واحد حسب الأحوال الشخصية بالرغم من أن احداهن متزوجة من فصيل آخر. دخلن في نقاش
حول مستوى الطلاب ومدى التزامهم حضور المحاضرات. "دخلك هاو المجموعة من
وين... أكيد من صوب هونيك... في منن محجبين". أجابتها: " لأ... في
بيناتن واحدة مش من هونيك". "وكيف ماشية معن... يا عيب الشوم
عليها". أجايتها: "ليش ممنوع المخالطة... هودي تلاميذ جامعة... شو بدك
الفرز يوصل لعندن... زرتي شي مرّة بعلبك". "أعوذ بالله... أنا بعد
الفرزل ما بقطع". وقفت وتهيأت للانصراف بعد أن أجابتها: "يا عمي شو
هالحكي عيب عليكي... اذا نحنا اللي بيقولو عنا النخبة بالمجتمع وعم تحكي هيك... ما
في عتب عبقية الناس".
في بلدية
بعد ساعتان ونصف وصلوا على الموعد. كان في استقبالهم نائب رئيس البلدية،
فالرئيس غير مقيم في الضيعة. "قهوة أو شاي؟" سألهم قبل دعوتهم الى
الدخول الى قاعة الاجتماعات في البلدية. كان هدف اللقاء مناقشة ألية العمل في
المشروع التنموي المقرر للضيعة من احدى الجهات المانحة. انتهى الاجتماع الرسمي
وراح الزائران يتبادلان أطراف الحديث مع نائب الرئيس. "شو بتشتغل ريس؟"
سأله أحدهم. "أنا مهندس معماري وعندي شركة تعهدات". "أنتو من وين
شباب؟" أجابه مسارعا" أحدهم "من زحلة". أسماء الزوّار لا تدلّ
أن بينهم من هو أزرق في منطقة صفراء. "هلق ونحنا راجعين منوقف عند صاحبنا
مناكلنا فرخ سمك ومنسفقلنا شي قنينة نبيذ؟ شو رأيك". أجابه زميله بالايجاب
"أحسن فكرة". بدا لنائب الرئيس أن الخبيرين من جماعة عيسى بن مريم. وصل
الحديث الى الشأن السياسي في البلد. تبيّن له علمانيتهما وفكرهما المنفتح. ربط
الأمور ببعضها وخلص الى أنهما من المرجح أن يكونا قريبان من خط حليفه السياسي
فاستفاض في شرح وثيقة التفاهم. خلص الى أن قوة هذا التفاهم هو تحالف أقليتين في
محيط بحرٍ أكثري. سأله: "شو تحالف ديني ولا سياسي هيدا يا ريّس؟".
"الظاهر هو سياسي لكن الباطن هو تحالفنا، نحن الأقليتين، لنصير قوة بوجه
هوديك". ضحك أحدهما وقال له: "ولوّ يا ريّس أخدتني بالطوفة... مساقبي
أنو أنا على التذكرة من هوديك!". حاول نائب الرئيس ترقيع الموضوع والتبرير
بعد أن أحسّ أنّ تحليله خذله.
في عزاء
توفيت والدته. كان الناس كثرا" في تعزيته. فهو اضافة الى كونه من
عائلة كبيرة لها وزنها في الشأن السياسي، مسؤول في أحد أهم الأحزاب اللبنانية. وصل
أحد أصدقائه يرافقه وفد للتعزية. الانتشار حول المنزل يوحي بوجود شخصية مهمة.
المرافقون في كل مكان. استفسروا عن الوفد قبل السماح له بالدخول الى القاعة
الرئيسية. استقبلهم ابن الفقيدة بالترحاب، وقدم صديقه الى المسؤول المركزي الذي
أتى للتعزية باسم أمين عام الحزب. اسم الصديق لا يسمح بمعرفة الكثير عنه. استكمل
أحدهم الحديث مع المسؤول بعد أن اضطر الى قطعه عند دخول الوفد. "مولانا...
انو يعني ليش الكلّ ضدنا بهالبلد". أجابه المسؤول: "يا مختار... نحن
اضطهدنا كثيرا" عبر التاريخ... لا تخف... لكن الظلم علينا سيكون سبب حشرنا مع
الأنبياء عند القيامة". أراد المختار الاسترسال مع المسؤول المركزي الذي أبدى
رغبة" في متابعة الحديث معه، لكن ابن الفقيدة استلم دفة الحديث سريعا"
وقال: "هالكلام غلط يا مختار، معليش اسمحلي... طيب مهالزلمي (أومأ بيده نحو
صديقه) هو من أهم داعمين للوصية الأساس لحزبنا وهو مش منا". أحسّ المسؤول
المركزي برهبة الموقف وفرح في قرارة نفسه من ابن الفقيدة الذي تدخل في الوقت
المناسب والاّ وصل حديثه مع المختار الى المحظور في حضرة غرباء. "تفضّل
أستاذ" قال المسؤول لصديق ابن الفقيدة. "من بعدك مولانا". ثم راح
المسؤول المركزي يعطي محاضرة في التسامح والانسانية ونبذ الفتنة والضغينة والحقد
محاولا" استيعاب الموقف لكن الأمور واضحة. بعدئذ تدخل صديق ابن الفقيدة
متوجها" نحو المختار (وضمنا"المسؤول المركزي) قائلا": "يا
مختار هالحكي ما بيجوز... اذا حاسس انو هاللي عم تتفضل في صحيح لازم تقولو عالملأ
ومش بين أربع حيطان... واذا حاسس أنو غلط نصيحتي ما تحكي في حتى بين ربعك وبين
أربع حيطان... هالحكي بولّد حقد وفتنة واذا بدنا نبني بلد مش هيك منحكي".
انزعج المختار وضمنا" المسؤول المركزي لكن موقفهم حرج. في اليوم التالي اتصل
ابن الفقيدة بصديقه ليقدم له الاعتذار عما بدر من المختار وضمنا" المسؤول
المركزي وليؤكد لصديقه أن ما قيل لا يمثل وجهة نظر الحزب بل وجهات نظر شخصية.
في التحليل
ما سردناه ليس من بناة أفكارنا. انها قصص واقعية حصلت في مجتمعنا. تبيّن
هذه الأحداث مدى استفحال الشعور العنصري الذي هو مزيج من الشعور الديني والمذهبي
والمناطقي يضاف اليها شوفينية لبنانية. لا مكان للمنطق في أحاديث المجتمع. فالفساد
الغذائي، والتعليم، والمعاملات الادارية وحتى اللياقات الاجتماعية كلها ارتبطت
بالنفس العنصري. لقد تفككت بنية الدولة الجامعة وغاب أدنى حسّ وطني. لم يعد يجمع
اللبنانيين حتى مشاكلهم الحياتية بل أضيفت هذه المشاكل الى لائحة خلافاتهم. والكلام
عن عيش وتعايش مشترك هو تكاذب اجتماعي ما يلبث أن يظهر عند أي مفترق. لقد تقلّصت
ثقافة الرأي المختلف وفقد الحسّ الانساني الجامع.
ان لعبة الخطاب الديني – السياسي أصبحت لعبة خطرة في لبنان وهي سيف مسلّط
على رقاب الجميع. فبعد أن كان فريق 14 آذار يدافع عن حرية الرأي ويُدخل في اطارها
كلام البطريرك صفير والمفتي قباني بينما فريق 8 آذار يطالب بتحييد رجال الدين عن
السياسة، انقلبت الآية وتبادل الطرفان الأدوار بعد انتخاب بطريرك جديد وتغيير جذري
في خطاب دار الفتوى. وقد شجّعت هذه اللعبة الكثير من الظواهر الدينية – السياسية
كان آخرها ظاهرة الشيخ الأسير.
نتساءل ما هو الحلّ؟
باستثناء قلّة قليلة، بالتأكيد لا نيّة لأي من الأطراف السياسية تغيير
قواعد اللعبة في لبنان. فالخطاب الغرائزي مطلوب خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات،
وهو الخطاب الوحيد الذي يمكن أن يستقطب الناخبين اضافة الى المال السياسي.
مرحليا"، المطلوب هو تطبيق القوانين اللبنانية التي تحظر أي كلام غرائزي،
حتى على رجال الدين واسقاط هذه الحصانة المقدسة عنهم. فهم بالنهاية مواطنون
لبنانيون ولا يمكن الا أن يكونوا تحت المساءلة والقانون.
أما على المدى الطويل فالمطلوب نفض المناهج التربوية واعلان وزارة التربية
والتعليم العالي وزارة سيادية الى جانب وزارة الثقافة ووزارة الشباب والرياضة.
فحسب آخر التقديرات تدفع الدول المتقدمة أكثر من ثلث ميزانياتها على التربية فقط،
ويطبع من الكتاب الواحد حوالي 85 ألف نسخة في انكلترا (معدل الطباعة من الكتاب
الواحد هو 5 آلاف نسخة لكامل العالم العربي)، وتقدّر حجم تجارة الكتب في الولايات
المتحدة الأميركية بـ 24 مليار دولار (4 مليارات فقط في العالم العربي).
أما لهؤلاء الذين يحاضرون في لبنان النموذج فنقول لهم عن أي نموذج تتكلمون
في بلد أصبحت فيه أحاديث الناس قنايل موقوتة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق