|بيروت - من عفيف دياب|
لم
تكن رحلة ام عبدالله عمر (63 عاماً) من دمشق الى سهل البقاع اللبناني،
«آمنة» كما كانت عليه الحال قبل الازمة في سورية في مارس 2011. ولم يسبق لـ
ام عبدالله ان بكت كما فعلت حين وصلت تعبة الى معبر المصنع اللبناني
الحدودي التي تحوّل في اليومين الماضييْن بوابة عبور الى «سماء آمنة».
رحلة
انتظار العبور الى لبنان، «الجارة الشقيقة» المازومة ايضا بمشاكلها التي
لا تحصى، والهرب من قذائف الهاون على حي الميدان في دمشق المتخم بالفقر
والجوع، ارهقت ام عبدالله هي التي لم تتعب من تربية اولادها التسعة الذين
تشردوا في احياء الشام دون ان تعرف خبراً واحداً عنهم وعن اولادهم.
انتظرت
ام عبدالله اكثر من 5 ساعات حتى تسنى لها العبور رسميا الى لبنان عبر نقطة
المصنع. رفضت البوح بكل اوجاعها، ولكنها فضلت النطق بجملة كافية لتحكي قصة
دمشق مع بدء معارك «الجيش السوري الحر» فيها ضد جيش نظام الرئيس بشار
الاسد.
وتقول ابنة حي الميدان: «راجعة على الشام يوم تصبح حرة». حكت
وتابعت سيرها وهي تتمتم بكلمات غير مسموعة او مفهومة، ولكن تفاصيل وجهها
المحروس بمنديل اسود توحي وكأنها تصب جام غضبها على مَن شرّدها في آخر
العمر.
اكثر من 31 الف دمشقي عبروا نقطة المصنع اللبنانية هرباً من
التطورات الامنية التي تحدث في العاصمة السورية، من دون اغفال مَن مروا عبر
البحر بـ «يخوتهم» كما كشفت تقارير عدة.
الوان الطيف الاجتماعي السوري
واضحة جدا في صفوف العابرين. وحدها ام عبدالله تحكي قصة فقراء الشام الذي
هربوا ولم يجدوا مأوى لهم، ووحده «الخواجة» محمد قبان يحكي قصة «برجوازية»
سورية انتعشت على ضفاف نظام يتهاوى وسرعان ما وجد وأقرانه مأوى لا حدود
لارقام دولاراته.
جمعت نقطة المصنع اللبنانية خلال الايام الاربعة
الماضية كل اوجاع دمشق وريفها، والخوف على المال والسلطة. نقيضان لهما
حساباتهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بهما. ام عبدالله تريد
حرية بلادها، والخواجة قبان يلعن الحرية التي تريدها الحاجّة الهاربة من
الموت.
وصلت ام عبدالله بحافلة نقل صغيرة كانت تسير من دمشق تحت شمس
حارقة. هذه الشمس الحارقة لم تعن الكثير لركاب سيارة قبان الحديثة الصنع.
عبرت ام عبدالله سيرا على الاقدام نتيجة اكتظاظ السيارات والحافلات، وعبر
قبان بواسطة المال دون عناء يذكر.
تناقض المشهد الاجتماعي الدمشقي كان
موحدا تحت سحب دخان القذائف وازيز الرصاص من حي الميدان الى كفرسوسة والمزة
وحتى الى مشاريع دمر الفارهة.
لم يكن النزوح الدمشقي الى سهل البقاع
اللبناني سوى صور متراكمة تحدّث عن تفاصيلها العابرون الهاربون من القتل
والقمع والخائفون على اموالهم وتجاراتهم ومواقع نفوذهم داخل نظام يخافون
منه وعليه. ولكل عابر دمشقي حكاية تلخص معاناة شعب كان الى وقت قصير مضى
مضيافا لالاف اللبنانيين الذين نزحوا قسرا من القصف الاسرائيلي على بلادهم.
فحكايات العبور بين البلدين الشقيقين ليست سوى نموذجا واضحا وفاضحا عن
علاقة ملتبسة بين شعبين وحّدهما القهر والخوف والهروب من القمع والقتل.
يوم
عبَر الاف النازحين اللبنانيين الى سورية في يوليو 2006 شُرعت ابواب دمشق
لهم ولم ينتظروا لحظة واحدة على معبر رسمي. ويوم أراد الالاف من السوريين
العبور الى لبنان انتظروا ساعات وساعات تحت شمس حارقة لا ترحم. تمييز عنصري
فاضح لا يرحم. قمع لفظي لخائفين ونازحين... وابتسامات عريضة لاصحاب الجيوب
المتخمة بالعملة الصعبة. انها ملخص حكاية يروي تفاصيل اسطرها وصفحاتها
ابناء دمشق الذين أتعبهم البحث عن الخبز هناك، وعن الامان والهدوء هنا في
لبنان.
يرفض السيد ابو محمد عمر ح. النازح من كفرسوسة الحديث عن اوجاع
حارته الفقيرة. ولكنه لا يخفي تصميمه على ايصال اولاده الى بر الامان حتى
يعود الى الحي الذي عشقه ليكون الى جانب اقرانه. يحكي الرجل الخمسيني عما
تتعرض له دمشق. يبكي حين يتذكر سقوط قذيفة على منزل جاره ابو وليد د. ولم
يقو على فعل شيء له. يتحدث عن «شبيحة» يسرقون حتى الدجاج «لاغتصابها»
والتهامها. لم يعهد الموظف «الادمي» في دائرة حكومية «ازلاما» يقتلون بلا
رحمة «قررت الهرب مع اولادي وثم أعود لانتقم».
قرار ابو محمد بالانتقام
من «عُمر» امضاه تحت القمع والقهر، لا ترى فيه النازحة من حي المزة وداد م.
الا عملا ارهابيا. تتحدث الصبية الانيقة التي تزور بيروت كل اسبوع للتمتع
بشمس البحر الابيض المتوسط عن قرار «سيادة الرئيس بشار الاسد» بقتل كل
الارهابيين والقضاء عليهم وعلى فلولهم. يشعر المستمع الى هذه الصبية انها
مذيعة اخبار في وسيلة اعلام رسمية في دمشق. تهزأ من ابو محمد ومن دموعه
«انها دموع التماسيح. قال بدّهن حرية».
الحوار غير المباشر بين ابو محمد
والصبية الموالية لنظام الرئيس الاسد، لا يعني الكثير لـ «عواطف» او «ام
جميل» القادمة من دير الزور الى دمشق هربا من القصف على مدينتها: «هربتُ من
الدير الى الشام وهلق هرباني مع اولادي الى البقاع». رحلة معاناة مع
النزوح السوري القسري والقاهر تشرح يومياته عواطف التي كانت تنتظر من
يستقبلها في منزل او مدرسة لبنانية و«ما بدي شي يا ابني. بدنا شوية رواق.
طول عمرنا ما عشنا يوم منيح».
تنصرف ام جميل وتبتعد عنا وخلفها ابنة لم
يتجاوز عمرها السنوات العشر وفتى أتعبته حقيبة لا يقوى على رفعها او
حملها. تقص عواطف حكايات القتل في حي الميدان الذي لجات اليه من دير
الزور:» بقينا 3 ايام تحت الارض. قصف عشوائي. يوجد عدد كبير من القتلى
والجرحى. دبابات لا ترحم السيارات. شبيحة يسرقون الدكاكين. اخذوا مني مصاري
حتى خلوني اطلع».
اكثر من 31 الف سوري عبروا الى لبنان في اقل من 48
ساعة. يوم «الحشر» على بوابة المصنع الحدودية، أتعب السلطات اللبنانية التي
لم تجد مخرجا بعد لهذا التدفق البشري والمتوقع ان يزداد في الايام
المقبلة.
وتقول جهات لبنانية رسمية لـ«الراي» ان ارتفاع اعداد النازحين
السوريين سيُدخل البلاد في ازمة جديدة. وكشف ان مدارس رسمية وخاصة اتُخذ
قرار بفتحها لايواء نازحين، كما ان مساجد في البقاعين الغربي والاوسط بدأت
تستقبل نازحين من دمشق وريفها.
وتحدثت مصادر دولية انسانية لـ«الراي»
في سهل البقاع اللبناني كاشفة ان اجراءات اتخذت لاستيعاب اعداد النازحين
الكبيرة، معربة عن اعتقادها ان العدد سيرتفع كثيرا اذا تطورت الامور
الامنية في دمشق.
واوضحت هذه المصادر انها كانت قد اعدت دراسة ميدانية
منذ قرابة ثلاثة اشهر عن امكان اقامة مخيمات لنازحين مفترضين من دمشق
وريفها، لافتة الى مؤسسات انسانية دولية «اجلت موظفيها من دمشق الى لبنان
ولا سيما الى سهل البقاع للمساعدة في ترتيب امور النازحين واحتياجاتهم».
وبالتزامن
مع هذه التطورات الاجتماعية والانسانية السورية، فان المعلومات الامنية في
البقاع اللبناني تحدثت عن وجود تعزيزات عسكرية سورية على الحدود المتاخمة
مع لبنان. وكشفت المعلومات لـ «الراي» ان الجيش السوري النظامي عزز تواجده
عند معبر جديدة يابوس ومعبر الجوسة في ريف حمص المؤدي الى لبنان. وقالت هذه
المصادر ان التعزيزات السورية تعود الى التحسب من امكان اقدام الجيش
السوري الحر على مهاجمة المعبرين المذكورين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق