السبت، 22 سبتمبر 2012

فخامة الزعيم



 رئيس جمهورية عرسال:

          نسيطر على الحدود من القاع إلى الزبداني 

 


عفيف دياب

احتل علي الحجيري موقعاً متقدماً في الحياة السياسية اللبنانية. رئيس بلدية عرسال تحول إلى نجم إعلامي. انتقد بحدة 8 آذار وأصبح القائد الميداني لـ«ثوار 14 آذار». البعثي السوري السابق صار المطلوب رقم واحد في لبنان لنظام دمشق..
***************
لم يخن رئيس جمهورية عرسال العظمى، علي محمد الحجيري (46 عاماً) طبقته الاجتماعية حين انتقم من الفقر المدقع الذي ورثه أباً عن جد، فتحول بين ليلة وضحاها إلى صاحب «فخامة». زعامته لا تقل أهمية ودوراً عن فخامة رئيس الجمهورية ميشال سليمان، أو زعامة «دولة» الرئيس سعد الحريري وسلفه فؤاد السنيورة. «فخامة» الزعيم علي الحجيري المنحوتة على وجهه صلابة الحجر العرسالي وقسوته، تخلّف ضحكته صدى براءة نقية تشبه أحجار زينة مقالع «جمهوريته» التي نحتها فقراء «شعبه» لشعوب جمهوريات لبنان. «عرساله» وتاريخها وأدوارها في الماضي والحاضر في مقارعة «فنون» الظلم والقمع، أمانة في عنقه، وهو الذي خبر كل أصناف التعب والقهر والجوع والصقيع والنضال وتدوير الزوايا كرمى لعيون عرسال، مفتخراً اليوم بأنه قائدها «إلى الأبد» لو كره الكارهون.
لم ينس الفريق أول في محور عرسال ــ سوريا علي «غيفارا» الحجيري (الملقب بأبو عجين) حكايات جدته عن زمن جده في مقارعة الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان أواسط عشرينيات القرن الماضي. كان جد رئيس بلدية عرسال، ثائراً في صفوف الثوار السوريين واللبنانيين ومقاتلاً مع «البعلبكي» توفيق هولو حيدر. اعتقل فحُكم عليه بالإعدام وصودرت أملاكه وبساتينه و«جرة» الذهب، مقابل إعفاء رقبته من مقصلة الموت: «اضطهد أجدادي كثيراً زمن الانتداب الفرنسي. كانت عائلتي وعرسال مع الثوار ضد ظلم الفرنسيين. كانوا مع بعلبك واللبوة والنبي عثمان وايعات ضد المستعمر». ويضيف بصوت حزين: «كان جدي مختاراً وعنده ألف رأس غنم وذهب ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية. لكن الانتداب صادر أملاك أجدادي، فهرب بعضهم إلى سوريا وعملوا عند الآغاوات في الزراعة والحراثة». ويقول الزعيم الحجيري: «ورث أبي الفقر والتعتير عن جدي، وورثت التعب عن أبي. وها أنا قد استعدت جزءاً كبيراً من أملاك أجدادي». ويردف بشغف المنتصر: «أملك وحدي اليوم 5 آلاف شجرة كرز ومشمش، عدا الأراضي الزراعية الأخرى في عرسال وجرودها وفي منطقة القاع».
ورث الزعيم الحجيري «ثورية» أجداده: «في عرسال تُرضع الأمهات أولادهن حليب التمرد والثورة»، يقول الرجل الذي هزم «عسس» الاستخبارات السورية يوم كانوا يحكمون لبنان، وخاض معارك انتخابات بلدية ضد إرادتهم و«انتصرت عليهم في انتخابات 1998 و2004 يوم رشحت ابن عمي، ولاحقاً في انتخابات 2010 رغم تحالف معظم القوى الحزبية والعائلية ضدي». يؤكد «أن لا أحد نازلني إلا انتصرت عليه. كان غازي كنعان يتصل بي لمعايدتي رغم عدم معرفتي به. فهو يعرف أنني هزمت رجاله بعد حرب طويلة في السياسة والتهريب، وصنعت هيكلاً لحزب البعث هنا ودمرته لاحقاً على رؤوسهم حين تحدوني».
ولد علي محمد الحجيري في عرسال ربيع عام 1966، تعلم الزراعة والحراثة بالفطرة، وتلقى تعليماً ابتدائياً في مدرسة راهبات قرية القاع، منهياً المرحلة المتوسطة في عرسال، و «تمردت على أبي والمدرسة والتحقت بمنظمة العمل الشيوعي وقاتلت على محاور الجبل وجبهة سوق الغرب بين 1984 و1985». لم يمكث الحجيري طويلاً في منظمة العمل الشيوعي، فوالده جمع أعضاء المنظمة في عرسال وهددهم بالقتل إن لم يعيدوا له ابنه علي أو أصابه مكروه، فـ«رجعت إلى الضيعة وبدأت العمل في التهريب نحو سوريا يوم كانت أميركا وفرنسا يحاصرانها، فوقفت معها وأخذت أهرّب البضائع بغض طرف من الاستخبارات السورية وبدعم منهم».
تمرد الحجيري على الاستخبارات السورية في 1988، فتحول إلى طريد، واختبأ في مناطق نفوذ وليد جنبلاط في الشوف حتى أعاد تنظيم العلاقة مع ضباط سوريين نجح في استغلال نقاط ضعفهم: «دفعت لهم الأموال للعفو عني والسماح لي بالعودة إلى تهريب البضائع نحو سوريا، وربطتني صداقات متينة مع بعضهم، فشكلوا حماية أمنية لي بعد أن عرفوا كذب التقارير الأمنية التي كان يكتبها مخبرو حزب البعث في عرسال ضدي». ويتابع: «أصبحت رقماً صعباً عند ضباط سوريين، وكنا ندخل إلى سوريا قافلة من 100 شاحنة محملة بمختلف أنواع البضائع على المكشوف، وكان الضباط يقولون لمخبريهم: اتركوا أبو عجين يعمل اللي بدو ياه».
علاقة الحجيري الجيدة بالاستخبارات السورية، أوجبت عليه أن يعمل على مساعدتهم في تنظيم صفوف حزب البعث في عرسال بعد أن ترهل: «طلب مني تنظيم وضع الحزب وضمّ مناصرين جدد إليه. نجحت في تنسيب 200 نصير». نقمت الاستخبارات السورية على الحجيري مرة أخرى، فترك مهنة التهريب وتفرغ للزراعة: «تركت التهريب نتيجة المضايقات الأمنية، ولأنني لم أعد قادراً على دفع الأموال للضباط السوريين، فتحولت إلى الزراعة في جرد عرسال ومشاريع القاع، ولكن بقيت على تواصل محدود مع السوريين، ثم افتتحت مقلعاً للحجر يعمل فيه أولادي اليوم».
تواصُل الحجيري مع السوريين استفاد منه ومن دعمهم غير المباشر في وصوله إلى سدة رئاسة بلدية عرسال سنة 1998 حيث أسهم التفاف عائلته حوله في تحدي بعض الأحزاب والعائلات واحتلال قيادة بلدية وبلدة رفع الحجيري من التباس علاقتها مع سوريا. نجاح الزعيم علي في تثبيت زعامته على عرسال وترسيخها، أدخله في إشكالات سياسية متنوعة مع السوريين ومع حزب البعث الذي طرد منه سنة 2001: «لم نكن نفهم على السوريين ولم يفهموا يوماً علينا». ويقول: «جاء مسؤول من البعث وعقد ندوة في الضيعة، طالباً منا أن نفعل كذا وكذا وأن مصلحة عرسال هنا وليست هناك. فاعترضت على كلامه وقلت له: اذهب وعلّم أهل قريتك، وغادرت الندوة فخرج جميع العراسلة منها». ويتابع: «نقم علي جماعة المخابرات السورية فطُردت من حزب البعث لأنني صرت معادياً للممانعة ولسوريا الاسد».
طرد «فخامة الزعيم» من حزب البعث لم يمنعه من إعادة ترطيب العلاقة مع الاستخبارات السورية التي طلبت منه الترشح للانتخابات البلدية عام 2004 في عرسال، فرفض مفضلاً دعم قريب له ومواجهة البعث حيث لم يصل لهم عضو بلدي واحد أو مختار لحي: «قلت لهم: سأهزمكم في عرسال، وهكذا حصل». هزم الحجيري «البعث السوري» وتمرد على الاستخبارات السورية إثر بنائه علاقة متينة مع الرئيس الراحل رفيق الحريري رغم توصية الأخير له بالحفاظ على علاقة ودية مع ضباط الشام في لبنان: «كنت على تواصل دائم مع الرئيس الشهيد ويعرف عرسال قرنة قرنة، ويعرف كل احتياجاتها». ويضيف أنه «حين استشهد الحريري طلبت الاستخبارات السورية مني مساعدتهم في منع الناس من النزول إلى التشييع في بيروت، فرفضت وأخذت أنظم مواكب العراسلة إلى بيروت، فغضبوا علي وأخذوا يهددونني، لكن انسحابهم أنقذني إلى أن جاءت الثورة السورية التي ندعمها».
بعد وصوله مرة ثانية إلى رئاسة بلدية عرسال في عام 2010، حقق علي الحجيري تواصلاً مقبولاً نسبياً مع حزب الله، و«لكن الحزب لا يريد التعاطي معنا إلا من خلفية طائفية. السيد نصر الله انتصر على إسرائيل في 2006، ولكن لا أدري لماذا انزلق إلى زواريب صغيرة وضيّع هذا النصر الكبير. فأنا مثلاً كنت ضد (الرئيس) فؤاد السنيورة وأصبحت معه كما كل عرسال». ويضيف: «عرسال اليوم مع الثورة السورية ضد بشار الأسد، ولا أخفي أننا ندعم الثورة هناك، ولكن أتحدى أن يثبت واحد أن في عرسال تنظيم قاعدة». ويقول ضاحكاً: «ثلاثة أرباع العراسلة لا يعرفون طريقة الوضوء، ولا يقبلون أصحاب اللحى»، مؤكداً أنه «وعرسال تعرضنا للكثير من إهانات البعث هنا وفي سوريا فلا تلومونا يا شباب».
زعيم عرسال الأوحد يفتخر بدعمه للثورة السورية ضد نظام الأسد: «لو كانت كل دول العالم مع بشار الأسد وشعبه وعرسال ضده فلن يبقى في الحكم»، ويضيف: «السوريون دمروا لي منزلاً في الجرد، وحطموا آخر في مشاريع القاع، ودمروا لي بئراً للمياه، ولكن لن اتراجع عن دعمي للثورة». ويتابع: «إذا كان هنالك تهريب للسلاح من عرسال إلى سوريا فاسألوا ضباط الأمن السوري وقادة البعث في لبنان، فهم أدرى بمن يهرب ويتاجر معهم هنا وفي سوريا». ويختم الحجيري: «نحن الآن نسيطر على الحدود من القاع إلى عرسال، وصولاً إلى ريف الزبداني. أكثر من 100 كلم مع سوريا تحت سيطرتنا».


راسي يابس
تنقسم عائلة زعيم عرسال، علي محمد الحجيري، إلى 4 أفخاذ: أبو علي، أبو قاسم، زيدان ومصطفى. وهي كبرى العائلات حيث يبلغ تعداد ناخبيها نحو 3 آلاف، ولكنهم منقسمون سياسياً وموحدون اجتماعياً. ويقول الحجيري إنه عاش في بيت ترابي مع 12 شقيقاً وشقيقة عدا جدته وعمته: «كنا نأكل المر، وأحياناً لم نكن نملك رغيف خبز إلى أن رزقنا الله». يضيف: «أنا مواطن فقير من عرسال أعيش بكرامة وعنفوان وراسي يابس». يتابع: «أنا فلاح ورئيس بلدية كبرى مثل بيروت وزحلة. أعيش مع زوجتي وأولادي السبعة في منزل صغير ومتواضع. نعمل جميعنا لنعيش بكرامة وهدوء كما حال أهالي بلدتي الفقراء. نرفض الظلم ونتحدى الظالم مهما كان جوره علينا من الفرنسيين إلى الإسرائيليين، وصولاً إلى نظام البعث. نموت هنا من البرد والصقيع ولن أنسى يوماً كيف تجمدت من الصقيع في الجرد وكدت أموت من البرد». ويختم: «والدي وأعمامي وأخوالي قاتلوا إسرائيل في الجنوب منذ 1969. والدي كان مقاتلاً مع قوات الصاعقة في العرقوب. كل عرسال ضد إسرائيل والظلم والقمع فلا يزايدنّ علينا أحد».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاخبار ـ العدد ١٨١٥ السبت ٢٢ أيلول    2012
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأحد، 16 سبتمبر 2012

جمّول: حبيبتي المقاومة




                     جمّول: حبيبتي المقاومة 

ملف من اعداد جريدة الاخبار  15 ـ ايلول ـ 2012 *

    ثلاثون عاماً على انطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية - جمول»، وبيانها التأسيسي الذي أكدّ أن «واجب الدفـاع عن الوطن هو أقـدس واجب، وأن شرف القتال ضد المحتل هو الشرف الحقيقي الذي ينبغي لكل وطنيٍّ أن يفاخر به». ثلاثون عاماً ومخزون ذاكرة المقاومين عن تاريخ كتبوا حروفه بدمائهم لم يُنس. زائر المقاومين الأحياء في القرى المنسية خلف أحزمة الصمت والفقر والتعب، يلمس كم هذه البلاد بلا وجدان أو ضمير، ويستغرب كيف يمكن كثيرين أن يناموا، وهم يعرفون أن في وطنهم مقاومين مثل هؤلاء، لا يزالون فقراء. يرفضون كشف أسمائهم لأنهم يدركون أن المهمة لم تنته بعد.

   من أقاصي عكار، إلى جرود عرسال وبعلبك ومشغرة والقرعون ومجدل بلهيص وشبعا وإبل السقي ومرجعيون والخيام وكفرشوبا والنبطية والمتين وبيروت وصيدا وبنت جبيل، كانت رحلة البحث عن مقاومين جمعهم الوطن في جبهة واحدة... تحية إلى ملحم الحجيري وسمير و«الحاج» وجورج وسامر ومسعود ومنى وليلى وجميلة ودلال وعبد وغسان وأمين وهيثم...، تحية لأنكم خرجتم من عزلة صمتكم وقلتم حقيقة بلادكم. إلى الرفاق المنسيين اليوم في حقولهم ومدارسهم ومنازلهم الفرحة يبحثون عن لقمة خبز وفرصة عمل وحبة دواء، وإلى مقاومي بطش عهر الطوائف والمذاهب وملل المال الأسود...

هنا بعض من سيرة المقاومة في عيدها:

                                                                                                                               ــــــــــــــــــــــــــــ 


لوحات لا تذكّر بـ«أيلول» البيروتي


في مثل هذا اليوم قبل 30 عاماً، كان الموت ينفث روائحه الهاربة من صبرا وشاتيلا في أحياء بيروت. بعدها بيومٍ واحد، اتخذت بيروت، المرعوبة من موتٍ مماثل، قرارها بالعمل المقاوم، فكانت «بسترس» وبعدها «أيوب» وبعدها «بناية التحرير»
راجانا حمية
هناك، على الرصيف الذي لا يعبره أحد، وُضع «تذكار» صغير لعملية جمّول الثانية التي نفّذت في اليوم السادس لاجتياح بيروت عام 1982. في ذلك المكان، الذي صار اسم التذكار فيه «بلاطة محطة أيوب» _ نسبة إلى محطة الوقود المحاذية _ تستحيل الذاكرة كومة من فراغ. ذاكرة بثقوب أبدية لا ترتق، لم يعلق فيها إلا «أيلول» المكتوب في اللوحة العابرة في يوميات أبناء منطقة الظريف، القدامى منهم والطارئون.
هناك، سمع بعض الناس حكاية «واحد قتل بأيلول الـ82 أمام المحطة وكان على ما يبدو شيوعي، فعلّقوا الرخامة»، فيما آخرون لم يسمعوا. فقط قرأوا ما علّق على تلك اللوحة. بلا إضافات. واستنتجوا أنه «يبدو صاير شي بهيداك الوقت»، يقول علي، الذي انقضى نصف عمره في تلك المنطقة. حلّ علي جزءاً من «اللغز»، مستنداً إلى كلمات مفاتيح: «عملية».
«مقاومون مجهولون». «جبهة مقاومة». وأيضاً عام 1982 المطبوع في مكانٍ ما من ذاكرتنا. وقد يكون من بين قلائل استطاعوا تخمين المكتوب. لكن، ثمة من قرأ وفهم أشياء أخرى، فيقول أحد المنتظرين على مقربة من اللوحة لسيارة أجرة «هيدي رمز ليدلّوا على مكان الحزب الشيوعي»، ثم يسأل «بس ليش بعيدة كل هالبعد؟»! يضحك آخر على كلام الرجل معلّقاً «على ما يبدو ما عاش تلك الفترة، فأنا عشتها وأعرف أن الحزب الشيوعي وضعها». وبلهجة الواثق، يتابع «لكن، ليس ليدل على مكانه، بل ليقول نحن هنا، كما تفعل حركة أمل وحزب الله... مفهومة».
هذه بعض من حكايا «جمول» كما يرويها الناس هناك. ناس لا يشبهون من عاشوا «التوازن» حينها والرعب أيضاً، ويحفظون عن ظهر قلب أسماء ثلاثة مجهولين أحرقوا، يوم الثاني والعشرين من أيلول 1982، في ذلك المكان بالذات ملالتين إسرائيليتين... وجنوداً. لكنهم قلائل، وهم إما «مغامرون» أو «نوستالجيون». لا يمكن أن يكونوا غير ذلك ليحرسوا ذاكرة أمكنتهم «النوعية». وحدهم يعرفون كيف حصلت عملية «محطة أيوب»؟ وقبلها «صيدلية بسترس»؟ وبعدها «بناية منظمة التحرير»؟ وغيرها؟ وكيف بدأت، في تلك الفترة بالذات، بيروت عملها المقاوم.
صدفة، صارت بيروت نواة العمل المقاوم. كان ذلك في 16 أيلول 1982، عندما أطلق «الحزب الشيوعي» نداءه الشهير لـ«الجميع» للالتحاق بجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي كان قد دخل بيروت.
كانت العاصمة، في تلك اللحظة، تعيش أبشع لحظاتها، محاصرة بعدو... ومجزرة راح ضحيتها الآلاف في مخيمي صبرا وشاتيلا. وكان الناس في حينها يرمون أسلحتهم في مستوعبات النفايات ويهربون بمناديلهم البيضاء. يومها، اتخذ القرار بـ«العمل المقاوم». وعلى عكس المسالمين الهاربين، تحمّست مجموعة من «المغامرين» لعملٍ لم يكونوا ليعرفوا عاقبته أبداً، خصوصاً أن «دم» صبرا وشاتيلا لا يزال دافئاً.
كانت أولى ثمرات ذلك العمل «عملية بسترس». في تلك العملية التي وقعت بعد يومٍ واحدٍ من دخول العدو لبيروت، حدث كل شيء بـ«تشاور اللحظة»، رغم أن القرار كان موجوداً. يروي أحد الضالعين في تفاصيل تلك العملية أن «كل ما سبق التنفيذ كان افتراضياً». وفي لحظة التنفيذ، صار «التعامل مع الموجود». فمن كان يفترض أن يقوم بالعملية ترك مكانه مرغماً بظروف صعبة «لذلك أبدل البعض بآخرين، والمحظوظ من بقي في بيته في ذلك الوقت»، والسلاح لم يكن هو نفسه، فقد حوصرت الأمكنة التي كان موجوداً فيها، ومعظم ما تم جمعه هو ممّا «رماه الناس». حتى المكان لم يكن صيدلية بسترس. ولهذا السبب، «يقال» إن هذه العملية كانت مبادرة فردية.
هكذا، أبدل الأشخاص المفترضون بثلاثة، صاروا في ما بعد «نواة» العمليات اللاحقة في بيروت وغيرها. وكانت «مغامرة» غير محسوبة في حينها ضد عدو لا أحد يعرف «ماذا يمكن أن يكون ردّ فعله»، وهو الخارج للتو من مجزرته المروّعة. مع ذلك، تمت العملية بنجاح، وكانت ذات أهمية لنواحٍ كثيرة، لعل أولاها أنها حصلت في وقت كان كلّ شيء فيه يحدث «عكس السير»: رايات بيضاء. وثانيتها، أنها لم تترك أثراً، «فقد كان الحرص على ألا يجرح أحد، وقد نجح الرهان». وإلى كل ذلك، تضاف السرية... التي فقدت بعد سنوات. أما النجاح، فهو أنها أسّست لبيروت أخرى، وعزّزت الحماسة لعملياتٍ أخرى نفّذت بالنجاح نفسه «وربما أكثر»، معطوفة على ردّ الفعل «الحيادي» للعدو.
من بسترس، ولدت العملية التي «تكنّى» اليوم باسم محطة أيوب. تلك العملية التي لم يحتج الناس إلى وقتٍ طويل كي يروا نجاحها كما في بسترس، فهي التي حدثت في وضح النهار. في عملية «أيوب»، أحرق المقاومون ملالتين بجنودهما. صار الحدث مزيجاً من شعورين: فرح كبير، ورعب أيضاً، بان في عيون المقاومين الذين أحسّوا بـ«المسؤولية». تخوّفوا من احتمال قيام العدو بالانتقام لمقتل جنوده، والمبادرة إلى قتل أبرياء. كلّ شيء كان ممكناً، وضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا كانوا خير شاهد.
مع كل هذا الخوف، كرّت سبحة العمليات. لكنها، كانت «قصيرة» في بيروت، فالعدو خرج قبل أن يكمل أيامه العشرة. مع ذلك، لم ينه الشباب نضالهم، بل انتقلوا بعملهم المقاوم إلى المناطق.
بعد قليل من السنوات _ ربما ثلاثة _ خبا ذلك التوازن الذي أحدثته الـ82 للبعض. وبدأت مقاومات أخرى، ولم «تبق» جمول. وربما لهذا السبب، يقول هذا البعض إن الذكرى صارت «ماضي كتير». وهو الماضي نفسه الذي لم يتسنّ للناس أن يتذكروه، حتى في اللوحات التذكارية التي علّقت عام 2001 لحراسة الذاكرة المتبقية... بالصدفة وبمبادرة فردية.
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


                  ملحم الحجيري يروي «معركة خلدة»



 لم تكن خلدة محطة عابرة للإسرائيليين خلال اجتياحهم لبنان. فيها خاض مقاومون من مختلف الانتماءات أقوى المعارك. ملحم الحجيري كان هناك
عفيف دياب
«لم ولن تنهزم المقاومة»، يقول ملحم الحجيري (55 عاماً)، الذي عرفته مواجهات خلدة إبّان التصدّي للاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982. يروي صانع أحجار الزينة اليوم، من مقلعه في أعالي جرود بلدته عرسال، كيف صنع ورفاقه، في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان ينتمي إليه، ملاحم بطولية في خلدة، جنباً إلى جنب مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وحركة أمل. يحكي قصة مواجهات خلدة كأنها تحصل الآن أمامه. لا ينسى خلال سرد سيرته ورفاقه في الاتحاد أدّق تفاصيل المواجهات، وكيف كبّدوا العدو خسائر بشرية جسيمة، مدمرين دباباته بقذائف «الآر. بي. جي»، وكيف أفشلوا أكثر من إنزال بحري لتطويق بيروت من جنوبها واحتلال مطارها والتلال المشرفة عليه.
يقول: «كان على تلال خلدة موقع للجيش السوري يضم راداراً تعرّض لغارة جوية يوم 9 حزيران 1982. بعد الغارة، بدأ الإنزال الاسرائيلي البحري، الذي أمطره الجيش السوري بقذائف مدفعية، فيما انتشرت مجموعاتنا نحو الخط الساحلي، وزرعت الكمائن لمنع العدو من السيطرة على مثلث خلدة».
بعدما نجح العدو في تجاوز القصف المدفعي السوري إثر تعرّض مرابض الجيش السوري لغارات جوية، بدأ الاشتباك مع الاحتلال. وكانت مجموعات المقاومة قد توزّعت من الفاميلي بيتش وغاليري حوحو حتى مدينة الزهراء، حيث كان مقاتلو حركة أمل. يروي ملحم أنه «قبل الالتحام المباشر، سمعنا طلقات رشاشة. اعتقدنا للوهلة الأولى أن اشتباكاً حصل بين مجموعات من فصائل فلسطينية». توجه مع مجموعة من مقاتلي الاتحاد الاشتراكي لاستطلاع الأمر «وإذا بنا نشاهد دبابات العدو. على الفور، أصدرت أمراً بالتصدّي للتقدّم، فرمى أحد الإخوة قذيقة B7 على الدبابة الأولى فأخطأ هدفه. تدخل أخ ثان ورمى قذيقة أخرى فأصابه». وصلت مجموعات إسناد تابعة للاتحاد الاشتراكي وحركة فتح والجبهة الشعبية (جناح جورج حبش) و«دارت معركة لن أنساها، ولن أنسى كيف قفز أحد إخوتنا من البناية ورمى قنابله اليدوية داخل دبابة، وكيف أجهز على أحد جنود العدو».
أوقف ملحم الحجيري ورفاقه التقدم الإسرائيلي الأول على محور مثلث خلدة، بعد تدمير 3 دبابات وإعطاب أخريات. «وعندما بدأ غروب الشمس يسيطر على محور خلدة، توزّعت مجموعات من حملة قواذف الـB7 في كمائنها، بعدما تلقينا دعماً من حركة فتح والجبهة الشعبية والصاعقة». مع حلول ساعات المساء الأولى، حاول العدو التقدّم مجدّداً نحو مثلث خلدة بعد تنفيذه غارات جوية وقصف مدفعي لسحب دباباته المدمرة وإجلاء قتلاه وجرحاه، و«مع حلول الليل خضنا مواجهة ثانية مع دبابات العدو، واستطعنا إيقاف محاولته الثانية بعد وصول مجموعات دعم من فتح والاتحاد الاشتراكي العربي وأحزاب الحركة الوطنية».
يضيف الحجيري إنه إثر إفشال محاولة التقدّم الإسرائيلية الثانية «عقدنا اجتماعاً تنسيقياً لقادة القوات المقاومة للعدو في ملجأ بناية تعرض محيطها لغارة جوية، غادرنا وكان قد انبلج فجر 10 حزيران، حيث أعدنا انتشارنا ورفع السواتر الترابية وتوزيع الكمائن من جديد».
في اليوم التالي، أجرى الحجيري اتصالاً بحركة أمل في مدينة الزهراء «وضعت مع أحد قادتها، وهو من بلدة مقنة البقاعية، خطة مواجهة جديدة تكون بعيدة عن مدينة الزهراء، وشكلنا غرفة عمليات مشتركة بقيت موحدة لثلاثة أيام، إلى أن استطاع العدو الوصول الى صحراء الشويفات من محور عرمون، تمهيداً لفرض طوق حول مثلث خلدة بعد فشله في التقدّم أكثر من مرة». نجح الحجيري ورفاقه، مع حركة أمل، في منع العدو من التقدم على محور خلدة أكثر من مرة، و«في المحاولة الرابعة استطاع أحد الإخوة السيطرة على ملالة للعدو وأحضرها الى مركزنا، حيث سلّمناها إلى الإخوة في حركة أمل بهدف نقلها الى مركزها في الضاحية الجنوبية».
بقي الحجيري ومجموعته في خلدة حتى 13 حزيران. بعدها تلقى أمراً من قيادته بوجوب الاجتماع مع اللجنة العسكرية في بيروت لوضع خطة مواجهة جديدة، ودراسة إمكانية الصمود في خلدة بعدما أصبحت «جيباً صغيراً يقاوم ضمن الأراضي المحتلة من العدو». توجه الحجيري الى مقر قيادته، حيث تم تقدير الوضع الميداني «أبلغت قيادتي أنه يمكن أن نقاوم أياماً عدة ما دامت الذخائر متوافرة، وسوف أتشاور مع حركة أمل الموجودة هناك ليكون التقدير مشتركاً». عقد الحجيري اجتماعاً عسكرياً مع حركة أمل في الأوزاعي «درسنا معاً الواقع الميداني، حيث تبين لنا أننا أصبحنا داخل طوق العدو بعد احتلاله المدرج الشرقي للمطار وأن المناورة أصبحت محدودة، فقرّرنا سحب قواتنا وإعادة الانتشار تمهيداً لمعركة بيروت ومنع احتلالها ووضع كمائن على محاور الضاحية الجنوبية لمنع تقدم العدو».
معركة خلدة التي سطر فيها ملحم الحجيري ورفاقه أسطورة في المواجهة، قتل فيها نائب رئيس الأركان الإسرائيلي يوئيل آدم، وقتل فيها أيضاً 10 جنود وفق اعترافات العدو وتدمير ما لا يقل عن 15 دبابة وآلية. ويقول الحجيري: «لن أنسى بطولات العقيد الفلسطيني الشهيد عبد الله صيام (استشهد خلال محاولة استعادة صحراء الشويفات وتلال عرمون بعد معركة خلدة). لقد خضنا أقوى المعارك مع العدو خلال اجتياحه للبنان في خلدة، وأوقفنا تقدّم فرقة مدرّعة كاملة (فرقة الجنرال آموس يارين). دمرنا السرية الأولى منها، وسحبنا عربة مدرعة (M113). يضيف الحجيري، الذي أصيب لاحقاً خلال حصار بيروت في 4 تموز 1982 «بعد مواجهاتنا في خلدة، تسلمت محور عين المريسة حتى الأوزاعي، ونصبنا كقوات مشتركة فلسطينية ـــ لبنانية مرابض مدفعية وراجمات صواريخ، وكان الصمود الأسطوري في بيروت قبل أن تأتي جرافات وتزيل السواتر التربية بحجة التنظيف».
                                                                                                                              ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على الجبهة: من البقاع الغربي إلى مزارع شبعا


عمليات نوعية كثيرة يحفظ مقاومو «جمّول» تفاصيلها. هنا استعادة لعمليتين: اغتيال ضابط الموساد أبو النور، واقتحام لمزارع شبعا
عفيف دياب
أطلق الشيوعيون مقاومتهم في البقاع الغربي وراشيا في أيلول 1982. خزّن قاسم محيدلي و«الحاج» الأسلحة والصواريخ في خزّان للمياه في مشغرة. وكانت القرعون خزّانهم الأوّل ومصدر أسلحتهم. في 16 أيلول 1982، صدر بيان انطلاقة جبهة المقاومة. نفذ فهد ومازن ومجموعتهما عمليتهم الأولى في بيروت، وأطلق قاسم محيدلي الرصاصة الأولى، معلناً بدء العمليات العسكرية ضد الاحتلال في البقاع الغربي وراشيا.
لم يكن يخطر بباله أن رصاصة مسدسه ستكون بداية مرحلة دحر الاحتلال. في 20 أيلول 1982، كمن قاسم بمسدسه على طريق قليا. انتظر أكثر من ساعتين حتى عبر صهريج مياه للعدو. أطلق رصاصته، فقتل سائق الصهريج وغادر بهدوء الى مشغرة حيث أرسل إلى القيادة على قصاصة ورق صغيرة: «قتلنا جندياً إسرائيلياً على طريق قليا وانطلقت المقاومة».
انطلقت المقاومة في البقاع الغربي. نفذ الراحل عباس باز عملية قنص لجندي إسرائيلي قرب مهنية مشغرة، وهاجم «الحاج» مع مجموعة القرعون بالصواريخ موقع الاحتلال في بعلول، مستهدفين مهبط المروحيات. ونفّذ (ط. ع. وم. د.) هجوماً على معسكر القرعون، وكرّت سبحة العمليات التي أفقدت العدو صوابه، فنفّذت استخباراته حملات اعتقال طاولت مئات الشباب في البقاع الغربي وراشيا.
 قرّرت قيادة الجبهة ردّ الصاع صاعين، وأسر أو قتل ضابط الاستخبارات الذائع الصيت ببطشه، المدعو «أبو النور» الذي نكّل بأهالي البقاع الغربي بطريقة وحشية. يذكر مقاومون أن خطة محكمة وضعت لاستدراج ضابط الموساد أبو النور، بعد زرع عميل لها عند هذا الضابط ومدّه بمعلومات تكون طعماً لأسره أو قتله لاحقاً. كلّف أحد المقاومين، من بلدة مجدل بلهيص، بإيصال معلومة إلى «أبو النور» عن وجود كمية من الأسلحة قرب قريته، وبالفعل تمّ ذلك، إذ حضر ضابط الموساد ونقل الأسلحة. بعدما كسب «العميل» ثقة أبو النور، طلب منه التبليغ عن كمين سينفذه شيوعيون قرب القرعون. وكما في المرة السابقة، نجح الأمر وصار ضابط الموساد على اقتناع تام بأنه نجح في خرق المجموعات السرية لجبهة المقاومة.
بعدها، قرّرت قيادة الجبهة زرع كمين لأسر أبو النور في مجدل بلهيص بعد استدراجه من قبل المكلّف بالمهمة. يقول أحد المطلعين على هذه العملية النوعية، التي نفذت عام 1984، «طلبنا من رفيقنا إبلاغ أبو النور بأن مجموعة من الشيوعيين موجودة في منزل عند مدخل مجدل بلهيص، ويجب اعتقالها بغتة خلال نوم أفرادها». فرز لهذه العملية ستة أفراد «في الوقت المحدّد، وصلت سيارة أبو النور من نوع .B.M.W. ومعه سيارة مدنية أخرى وجيب عسكري ودخلوا في وسط الكمين المحكم». يتابع محدّثنا: «ناديت على أبو النور ليسلّم نفسه بعدما أصبح ومجموعته تحت مرمى نيراننا، لكنه بادر الى إطلاق الرصاص من مسدسه، فبدأنا بإطلاق الرصاص عليه وعلى بقية أفراد المواكبة، فسقط صريعاً على الفور مع خمسة آخرين، فيما تكفل أحد الرفاق بمحاولة حمل جثة أبو النور الضخمة لأسرها، لكن ضيق الوقت ولأسباب لوجستية لم نتمكن من نقلها الى خارج المناطق المحتلة».
■ ■ ■
بعد انتصار جبهة المقاومة ودحر الاحتلال الإسرائيلي عن البقاع الغربي وراشيا، وأجزاء واسعة من الجنوب في ربيع عام 1985، عقدت قيادة «جمّول» اجتماعاً تقويمياً عاماً بحثت فيه أشكالاً جديدة من خطة مواجهة الاحتلال في الشريط الحدودي.
قرّرت قيادة الجبهة وضع جبل الشيخ ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا في دائرة المتابعة.
في أواسط ربيع 1986، كلف الشهيد جورج نصر الله (هادي) وكفاح بتولّي قطاع مزارع شبعا وسفوح جبل الشيخ الغربية، وتوجها الى هناك حيث مكثا داخل المزارع ستة أيام متواصلة، رسما خلالها مواقع الاحتلال في رمثا والسماقة ورويسات العلم وبسطرة، وصولاً إلى معسكر المجيدية وموقع العباسية، ووضعا خرائط الطرق الاسفلتية والترابية التي تسلكها آليات العدو وأنواع الأسلاك الشائكة، ومدى إمكانية أسر جنود للعدو ونقلهم الى خارج المناطق المحتلة.
كتب جورج نصر الله وكفاح تقريرهما عن مهمتهما في مزارع شبعا وأرسلاه إلى القيادة. بعد النقاش، تقرّر نصب كمين لدورية على الطريق التي تربط موقع رمثا بالسماقة، ثم عدّلت الخطة بعد وصول المجموعة المكلفة بالتنفيذ، إثر اشتباك حصل بين قوات الاحتلال ومجموعة تابعة للمقاومة الفلسطينية كانت موجودة في المنطقة بهدف العبور إلى داخل فلسطين المحتلة. انسحبت مجموعة «جمّول» إلى أطراف كفرشوبا الجنوبية، وانتظرت بضعة أيام حتى تنفذ مهمتها، لكن رسالة عاجلة وصلت مع «رفيقة» أبلغت قائد المجموعة بوجوب الانسحاب فوراً.
بعد هذه المهمة، قرّرت قيادة الجبهة إعادة تنفيذ مهمات استطلاعية جديدة. وخطط جورج نصر الله للقيام بعملية أسر من موقع السماقة بعدما أمّنت القيادة سيارة نقل مدنية تتموضع في أعالي كفرشوبا تنقل الأسير الى أقرب نقطة الى المناطق المحررة بعد تنفيذ المهمة.
في أواخر صيف 1986، تسلّلت المجموعة المنفذة الى محيط كفرشوبا الجنوبي. ولكن، مرة أخرى لم يحالف الحظ «الرفاق»، فتقرّر بدء التخطيط لعملية أسر أخرى على تخوم المناطق المحرّرة لأسباب لوجستية. بدأ التحضير لأكثر من عملية، نجح بعضها من دون تحقيق أسر جندي، وفشل بعضها الآخر. سجلت مواجهات كبرى في جبل الشيخ في أيلول 1987 وتشرين الأول 1987 وحزيران 1988 حيث استشهد جورج نصر الله (هادي) ومخايل حنا ابراهيم.
هذه العمليات، وما سبقها، ألزمت قيادة «جمول» بإعادة وضع الهجوم على مزارع شبعا في قائمة الأولوية. كلف محمود الحجيري (بلال) وإيلي حداد (الشقور) ورائد بإعادة استطلاع موقع السماقة. توجه الثلاثة إلى جنوب كفرشوبا ومكثا هناك أياماً عدة، حيث استطاع محمود الدخول إلى الموقع والبقاء مختبئاً بداخله أكثر من 4 ساعات، من دون أن يلحظه جنود العدو. وضع محمود وإيلي مع قيادة «جمول» خطة الهجوم الذي تقرّر أن يكون يوم 10 أيلول 1989. قاد محمود وإيلي المجموعة المهاجمة. زرعا عبوة ناسفة عند مدخل الميركافا، وعادا إلى بقية أفراد المجموعة حيث قسّما أفرادها الى مجموعتين: الأولى تقتحم الموقع، والثانية تتولى أمر الدبابة. قتل محمود وإيلي عناصر الموقع بالقنابل اليدوية والأسلحة الرشاشة وسيطرا عليه لمدة 10 دقائق، فيما تولى رفيق رفع علم الحزب، ونفذت المجموعة الثانية مهمة تفجير الميركافا بالعبوة ومهاجمة من بقي فيها أحياء. وخلال التنفيذ، ضحك إيلي حداد الذي صرخ قائلاً: «لقد قتلت الضابط، وهو يقول بالإنكليزية .P.L.O. (منظمة التحرير الفلسطينية). مش عارف أنا الشقور من عكار، شيوعي لبناني». إيلي استشهد لاحقاً في عملية نوعية على طريق دبين 1989.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        غسان سعيد لم يُغادر «الزمن الجميل»




ما زال غسان سعيد يعيش في أحلام الزمن الجميل. يستحضره دائماً. رَكَلَ المُقاوِم الشيوعي الظروف السياسية والإقليمية ملتحقاً بشعارات حزبه في ذلك الزمن. يعلّل «فعلته» بالصدق والوعي؛ لكن أيكفي الصدق وحده لتحرير وطن!؟ أراد مجابهة العدو الإسرائيلي مع بعض الرفاق من دون مال أو سلاح، «بلا ولا شي». فكان الأسير الأحمر الأخير
ربى أبو عمو
 صاليما، حيث يقطن الأسير المحرر من السجون الإسرائيلية غسان سعيد اليوم، تحفظ لابنها إرثه المقاوم. يتماثلان. تمسكت بالصفات التي تجعل منها قرية نموذجية لم تلوّثها الأفكار المدينية، فيما أبى هو التخلّي عن بطاقته الحزبية الحمراء. الماضي حاضرٌ بقوة في كليهما. عند مدخل بلدته لافتة: بلدة المقاوم غسان سعيد. نسأل عاملاً في محطة لبيع الوقود عن منزله، فيسأل بدوره: دمكم أحمر؟ كأن البلدة استعانت به جواز عبور الى المحيط. كان حظّ سعيد جيداً. لم يضطر إلى اللجوء إلى أبواب السفارات والسياسيّين لدى تحريره من معتقل الخيام. ترك وراءه بيتاً في ذلك الجبل، وتمكّن من استئجار محل لتصليح السيارات. عاد المقاوم عاملاً ميكانيكياً، لا يؤمن قوته من أمجاد الماضي.
بعض أهالي البلدة ما زال يسبح في الأحمر، منهم سعيد. ورغم عدم توافر الإمكانيات المادية واللوجستية لتنفيذ أي عملية ضد العدو الإسرائيلي لدى سلوكه هذا الخيار، فهو لا يعتبر فعلته طيشاً. «كنت في الثلاثينيات وقتها». يسأل طفلته: «هل أخطأت»؟ تجيب: «لا». كأنها «تطبطب» عليه. يقول: «أرأيتِ؟». يتناسى ربما الأطفال في هذه السن عاجزون عن بلورة موقف سياسي خاص بهم بعد. ميشال، اسمه الحركي، كان مقتنعاً بكل ما قام به.
بدأ سعيد مقاومته العسكرية من خلال الحزب الشيوعي منذ عام 1982، حيث عمل على إطلاق مضادات للطائرات في كل من عاليه وبحمدون وفالوغا وحمانا. وعام 1983، ساعد المقاومين من خلال تأمين الحاجيات اللوجستية من سلاح وطعام وغيرهما من الأمور، قبل أن يتمركز في الجنوب (عيتا الشعب، يارين، مروحين، ياطر، بلاط). يقول إنه «خلال عامين ونصف العام، شاركت في أكثر من 50 عملية استطلاع ومراقبة وتنفيذ».
فجأة، ومن دون سابق إنذار، ترك كل شيء وسافر إلى الكويت. خلع الزي العسكري الأحمر مرحلياً، من دون أن يترك العمل السياسي. يعزو السبب إلى الحرب الأهلية، وحاجته إلى مساعدة أهله. فكّر في أنه أدى قسطه من الواجب، وبات ممكناً ترك المهمة لغيره. دقّ ذلك الجرس الذي ذكّره بأنه حان وقت «تكوين المستقبل». عمل في الخليج حتى عام 1996، حين قرّر العودة إلى لبنان. كأن هذا الرجل قادر على الانتقال من مرحلة إلى أخرى بانسيابية مطلقة. بدا أنه لم ينفصل عن الحزب أبداً. عاد إليه من حيث تركه. لم يخمد نفسه المقاوم، بل خذله الحزب في الخمول الذي وجده فيه. وضع الظروف السياسية المحلية والإقليمية جانباً. تناسى تغيّر المرحلة. أراد إحياء التاريخ. قرر أن المقاومة يمكن أن تُخلق من العدم، تكفيها الإرادة. وهكذا كان. تمادى في حلمه، ووضع نُصب عينيه تحرير الأسرى. أزعجته خيانة الحلفاء وبحثهم عن مصالحهم الشخصية.
لم يكن سعيد وحده، بل شاركته مجموعة من المتحمسين القدامى والجدد. بدأ الإعداد للعملية التي حملت اسم سهى بشارة، وكانت ستنفذ في 16 أيلول عام 1998، ذكرى انطلاق جبهة المقاومة، لولا الكمين الذي تعرض له ورفيقه الشهيد بيار في الرحلة الاستطلاعية الثالثة. حافظ على شعارات المرحلة السابقة. قال إن العملية تهدف إلى «التحرير والتغيير الديموقراطي في البلد»، و«استكمال العمل النضالي والمقاوم الذي أسسه الحزب الشيوعي»، و«الرد على محاولة إنشاء سرايا المقاومة اللبنانية والالتفاف على الجبهة التي كانت مقاومتها وطنية علمانية، وعلى الطوائف وسلطة السوريين ورأس المال». كان على المتحمسين الدفع من جيبهم الخاص. أمّنوا 8 آلاف دولار لثلاث رحلات استطلاعية.
يقول سعيد إن هدف العملية كان أسر رجل استخبارات إسرائيلي وبدء عملية التفاوض لمبادلته بجميع الأسرى في معتقل الخيام والأراضي المحتلة. ويذكر أنهم في الرحلة الاستطلاعية الثالثة كانوا على بعد 150 متراً من موقع زغلة الإسرائيلي في حاصبيا، قبل أن يشتبك ورفيقه بيار مع نحو 20 جندياً إسرائيلياً أثناء عودتهما. استشهد الأول، فيما أصيب هو في أماكن عدة وأسر وأودع معتقل الخيام. ويشرح أن المجموعة الاستطلاعية كانت تضمّ شخصين إضافيين تمكّنا من إتمام مهمتهما والعودة إلى الديار، والاستفادة من المعلومات التي جمعاها وتنفيذ عمليتين ضد العدو.
خضع سعيد لقصص التعذيب ذاتها التي رافقت كل معتقل. لكنه لم يعترف بشيء. قال فقط إن بيار هو المسؤول، وقرّرنا معاً تنفيذ العملية. حمى باقي المجموعة، علماً بأن هاتف أحدهم وقع في يد الجيش الإسرائيلي من دون أن يتمكنوا من الحصول منه على معلومات إضافية. لكن مشروع العملية حقق مبتغاه. تحررت بشارة بعد 21 يوماً من أسره. برأيه، أرادت إسرائيل إسكات الشيوعيين وإبعادهم.
لا يزال سعيد شيوعياً وحزبياً فقط. لا مجال للمقاومة العسكرية اليوم. فالعدو أصبح بعيداً. يؤيّد بقاء سلاح حزب الله، لكنه يرى أن الأخير أزاح النزعة الوطنية للصراع.
                                                                                ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


                  أحلامهم... لم تكن أوهاماً

 


كان يجب أن نلتقيهم لكي نستمرّ في تصديق أنفسنا كي لا نصدّق ما يشاع عن لغة خشبية. ها هم يؤكدون أن أحلامهم لم تكن أوهاماً بما أنهم لا يندمون عليها، رغم كلّ شيء
مهى زراقط
البيت عادي. حديقته ذات التربة الحمراء تشبه الحدائق التي نعرفها أطفالاً. حجارة صغيرة تفصل بين أحواضها المزروعة بالنعناع والحبق والكزبرة. والضيافة التي توضع على الطاولة، حملها ضيف من الضيوف الثلاثة. أما الغداء، فشاي وكعك.
هنا، في إحدى القرى القريبة من مدينة النبطية، لا شيء تغيّر. يبدو هذا البيت وكأنه خارج الزمن. تماماً كبيوت كثيرين قاوم أصحابها بصمت، واختاروا البقاء في الظلّ بما أنهم لم يطمعوا يوماً بمكافأة على واجب أدّوه. يستغربون استدعاءهم إلى لقاء يستعرضون فيه تجربتهم. الطيبة التي تغلّف أحاديثهم ليست إلا تعبيراً مباشراً عن رفض أي محاولة تجعل منهم أبطالاً. بل إن شرط الموافقة على الحديث معهم، كان عدم الكشف عن هوياتهم الحقيقية.
كانوا ثلاثة. جلس كلّ منهم على كنبة ليروي، فيما يصغي إليه الآخرون باهتمام. يبتسمون مرة، وينفعلون مراراً. لا. لم تكن المقاومة حلوة كما قد يطيب للرومانسيين القول. مرارتها لا تزال تسري في العروق. تندفع في الدماء، وتخلّف وراءها أوردةً منتفخة تطلق بين فينة وأخرى تنهيدة من تحمّل ما لا طاقة له به.
في 16 أيلول 1982، كان كلّ واحد من هؤلاء الشباب في مكان، إلا أن المهمة التي قاموا بها كانت واحدة: توزيع بيان انطلاقة «جمّول». وزّعوا البيان، لكنهم كانوا قد انطلقوا في عملهم المقاوم قبل هذا التاريخ.
حسن شاهين (اسم مستعار)، ابن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بدأها منذ العام 1978. وعندما انسحبت قيادات الجبهة إثر الاجتياح الاسرائيلي، طلب المعونة من «الشيوعي» ليكمل ما كان قد بدأه. أما نضال وأبو عباس، فقد انخرطا في ما كان يسمّى «الحرس الوطني» الذي شكّلته قوات الاحتلال، وكانا عيني «جمّول» لدى العدو. قائد عملياتهم، الذي استقبلنا في بيته، كان حريصاً على الإشادة برفاقه الذين «وافقوا بمسؤولية كبيرة أن ينخرطوا في أصعب وأخطر الأماكن وهي صفوف العدو».
يعترف أبو عباس أنه تردّد كثيراً قبل الموافقة على هذه المهمة «فكرت أني قد أموت، وأبقى في ذاكرة الناس هذا العميل الذي آذاهم». مخاوفه كانت في مكانها، هو الذي تصالح قبل أسابيع فقط مع صديق عمره. قبلها بسنوات قليلة تصالح مع قائده العسكري، بعدما اعتقله حزبه أكثر من عشرين شهراً بتهمة التعامل.
معاناة شاهين لم تكن أقلّ. هو الذي اعتقل أكثر من مرة على يد الاسرائيليين، وتوافرت له الكثير من الفرص لكي يغادر إلى الخليج ويعمل هناك، لكنه لم يستطع اتخاذ قرار التخلي عن العمل المقاوم. في مرة من المرات، باع تذكرة السفر وهو في طريقه إلى المطار، وعاد إلى الجنوب محمّلاً بالأسلحة. أما نضال، فقاوم بصمت، متقناً لعب دور «الغبي» الذي يرتكب الأخطاء، للحصول على مبتغاه.
المقاومون الثلاثة، الذين «اعترفوا» في جلستهم معنا «بأشياء لم يقولوها للمحقق الاسرائيلي»، يرفضون الحديث عن واقعهم الحالي. هم الذين وجدوا أنفسهم، بعد «انتهاء» المقاومة، عاطلين من العمل. نفهم من أحاديثهم انهم يتدبرون أمورهم، بمهن أتقنوها، وعينهم على العدو. لهذا، لا يطيب لهم الحديث إلا عن العمليات التي نفّذوها.
يذكر شاهين، أنه اعتقل فور دخوله إلى المنطقة المحتلة مطلع الثمانينيات، في سجن «تلّ النحاس». من شباك زنزانته كان يرى مؤسس «جيش لبنان الجنوبي» سعد حداد حين يزور المكان. بعد أسبوعين من اعتقاله، كان يكنس الباحة الخارجية للسجن، ووصل الأخير. لم يتردّد في الوقوف أمام سيارته، وطلب الحديث معه. قال له: «سمعتك مرة تقول إنك ترحّب بكل لبناني نظيف، لهذا هربت من تحت وإجيت إلْطي (أختبئ) هون، فاعتقلت». سأله حداد: ماذا تعمل؟ فأجابه: «كهربجي». قال له: علقت. عندي براد يحتاج إلى تصليح، إذا نجحت في إصلاحه ستسرّ كثيراً، وإذا لم تنجح ستعود فلتكنس الطريق».
ذهب شاهين في اليوم التالي إلى منزل حداد في مرجعيون، ونجح في مهمته التي استحق عنها مبلغ مائتي ليرة، وإعفاء من خدمة الحراسة التي كان يجبر كلّ المقيمين في المنطقة على القيام بها. افتتح محلاً لتصليح الكهرباء، وبدأ يبني صداقات له مع أبناء المنطقة. وفي أول زيارة استطاع القيام بها إلى الأراضي المحرّرة، نجح في نقل أسلحة عبر «بيك آب» والده. وكرّت العمليات، إلى حين الاجتياح. عندها، عاد إلى النبطية، ليتابع عمله مشاركاً في عدد من العمليات الرئيسية التي شهدتها المدينة، ما تسبّب في اعتقاله داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة ولم يفرج عنه إلا إثر عملية تبادل.
غير بعيد عنه، كان نضال وابو عباس. الأوّل كان معروفاً في منطقته بأنه «ابن بيت شيوعي». كان من الصعب عليه أن يقنع الاسرائيليين بأن يتعاون معهم، لذلك بقي دائماً تحت المجهر. كلّما ارتكب خطأ ما، يوجه اللوم إليه. على الرغم من ذلك، نجح في كسب ثقة أحد الضباط الاسرائيليين من أصل يمني. كان ذلك إثر قيامه بإطلاق النار على دورية مشاة اسرائيلية من مكان خدمته. برّر الأمر بالقول إنه اعتقدهم مخربين، لكنهم لم يصدّقوه. يومها، تعاطف معه الضابط، وقال له: إذا احتجت إلى أي خدمة لا تتردّد في زيارتي. استغلّ نضال هذه العبارة حتى النهاية. صار يزور الضابط، حاملاً معه الهدايا، مقابل الحصول على تصاريح تسهيل مرور لرفاقه المقاومين. يذكر أنه في إحدى المرات، قصد المركز للحصول على تصاريح، فوجد ثلاثة من الشبان معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي في الممرّ. تعرّف إلى أحدهم، وهو من بلدته، فاستغلّ خلوّ المركز من الحرّاس وأطلق سراحهم.
بخلاف نضال، عانى أبو عباس كثيراً جرّاء خدمته في «الحرس الوطني» خصوصاً أنه اتهم في مرحلة من المراحل بأنه من المتورّطين في اغتيال الشيخ راغب حرب. هو أيضاً ابن بيت شيوعي، وشقيق لمقاومين معروفين. سمعة العائلة التي ينتمي إليها جعلت رؤساء المركز يجبرونه على مرافقتهم دائماً، حتى أن أحدهم كان يجبره على النوم معه في الغرفة ذاتها. لم يتحمّل أبو عباس طويلاً هذا الأمر، فهرب إلى بيروت حيث اعتقله حزبه نحو عامين. وعلى الرغم من ذلك، عاد وانضوى فيه، أما أولاده فهم منخرطون في «المقاومة الإسلامية». في النهاية، السلاح واحد... سلاح مقاومة.

تجربة ملك الشعب
يتفق المقاومون الثلاثة على القول إنهم خاضوا تجربة «لا أحد يندم عليها». وهم مستمرون فيها خصوصاً أن مهمتهم لم تنته مع تغيّر أولويات الحزب الشيوعي. لا مجال للحديث هنا عن النقاشات التي خيضت من أجل استعادة الدور المقاوم لهذا الحزب. زاد من قساوتها وعيهم للفساد الداخلي الذي ألمّ به. رغم ذلك استمروا. قاوموا، بطرق أخرى، خلال الاعتداءات الاسرائيلية في أعوام 1993 و1996، وصولاً إلى حرب الـ2006. فرحوا بالانتصار الذي تحقق، بخلاف ما حصل معهم عام 1985. يومها، عوض أن يحتفلوا في ساحات النبطية، كان كلّ منهم في مكان... أي مكان إلا الذي يستحقه مقاوم. أحدهم معتقل لدى حزبه، وآخر لدى حزب حليف جنباً إلى جنب مع عملاء اسرائيل، وثالث يبحث عن رفاقه... رغم ذلك تبقى العبرة في قولهم: «ما قمنا به ملك لشعبنا... وسنكرّره لو تكرّر».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

            استشهاديّو القومي: الموت طريقاً للحياة



 قرار الموت في سبيل قضيّة هو انتصارٌ على الخوف قبل كلّ شيء، وزرع للخوف في قلوب الأعداء. سناء محيدلي وكثيرون مثلها ارتفعوا أيقونةً تلو أخرى، في سلاحٍ جديد هو العمليات الاستشهادية، أسّس لهزائم إسرائيل المتلاحقة
فراس الشوفي
جندي يموت من جرعة هلع زائدة، وصبيّة تطارد الموت. جندي تصطكّ أسنانه في دبابته المدرعة وعينه على منظار مدفع، وفتاة، تحت مقعد سيارتها مواد شديدة الانفجار، وفي يدها صاعق تفجير. هذه معادلة رعب، تكفي وحدها ليعرف العالم أن الحرب هنا لن تنتهي، إلى أن تعود الأرض.
لم تكن العمالة بعد «وجهة نظر»، حين قررت سناء محيدلي أن تفجّر نفسها بحاجز لجيش الاحتلال الإسرائيلي وميليشيا «الخائن أنطوان لحد» على معبر باتر _ جزين في 9 نيسان 1985. قالت سناء ابنة الثامنة عشرة من عمرها في شهادتها المسجلة، إنّ «جنود العدو يتلفتون يميناً وشمالاً هرباً من الموت، وهم ليسوا مثلنا». وفي مقطعٍ من شهادتها المكتوبة، تطلب سناء من أمّها ألا تحزن لأنها اتخذت قراراً كهذا، «فأنا فضّلت الموت على أن يغدر بي انفجارٌ أو قذيفة أو يد عميل، هكذا أفضل وأشرف».
ويقول هيثم (اسم مستعار)، أحد ضباط جبهة المقاومة، الذين شاركوا في إعداد العمليّة، إن سناء كانت تعيش حياتها بشكل طبيعي قبل أيام من العملية. تستيقظ باكراً، وتنطلق إلى التدريب، ولم تكن تحسن قيادة السيارات، فصمّمت على التعلم في خمسة أيام. «سناء كانت مثلنا، لكن لديها الجرأة على أن تنتصر على أكبر المخاوف الإنسانية، كرمى لقضيّة».
يرى الضابط أن قيمة العمليات الاستشهاديّة لم تكن في كمّ الجنود الذين يقتلون أو الآليات التي تدمّر. فالفعل بحدّ ذاته هو الأساس. «في الحرب، كلّ سلاح له سلاح مضاد، يتطوّر بوتيرة تطور السلاح الأصلي. الدبابة تدمرها قذيفة، والطائرة صاروخ، والصاروخ منظومة دفاع، وحدها المعنويات يدمّرها مقاتل يقبل على الموت كما يقبل على السعادة». العمليات الاستشهادية، بحسب هيثم، كانت حرباً نفسية أكثر بكثير مما كانت حرباً عسكرية.
قد تجد في حلب قاعة في المكتبة الوطنية باسم سناء محيدلي، وشارعاً في طرابلس الغرب باسم عروس الجنوب، وحديقة عامة في تعز اليمنية باسمها. لكن، لا ساحة في بيروت لسناء محيدلي ابنة عنقون الجنوبية، ولا طابعاً بريدياً يحمل اسمها، ولا مستشفى حكومياً أو مجمّعاً جامعياً. لكنك تجد شارعاً باسم المفوض السامي الفرنسي «المحتل» الجنرال غورو، أو باسم الرئيس المصري أنور السادات الذي وقّع أول وثيقة استسلام عربية في كامب ديفيد.
لا همّ، فقيمة سناء الأصلية في ثلاثة مكامن. أوّلها، حجم الرعب الذي أدخلته وجيلها في قلوب جنود الجيش الاسرائيلي، وهو الذي قرّر اجتياح لبنان عام 1982 «بفرقة موسيقية». ثانيها، إدخال سلاح العمليات الاستشهادية بزخم كبير في منظومة المقاومة والدفاع بوجه القدرة العسكرية الإسرائيلية. وما الارتباك الذي أصاب وقتئذٍ وزير الدفاع الاسرائيلي إسحاق رابين في ردّه على سؤال صحافي إسرائيلي عن كيفية مواجهة هذا النوع من العمليات، وجوابه «بأننا لا نستطيع فعل شيء غير إجراءات أمنية محدّدة. أنُهدّد من جاء ليموت بالموت؟»، سوى دليل على الحيرة التي سبّبها هذا السلاح الفتاك في مواجهة الجيش الاسرائيلي. ثالث المكامن، البصمة التي تركتها سناء وأترابها في جيل كبير لحقها. اسمها أطلق على عددٍ كبيرٍ من مولودات الثمانينيات، في عائلات تحمل أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو أحزاب أخرى، كانت تنضوي تحت عنوان جبهة المقاومة. وهذا الجيل، بعد أكثر من ربع قرن، تسكن سناء حيّزاً كبيراً من ذاكرته، ما يدفعه إلى الزجّ بتجربتها في كلّ مثال للقوّة والشجاعة، ويحمله على تعليق صورها وتناقل كلماتها، والبحث في اللاوعي عن حنين لهذه التجربة، مع انكفاء أحزاب الجبهة عن خوض عمل مقاومة حقيقي.
وسناء لم تكن وحدها في هذه الفترة الذهبية الملتهبة من مواجهة القومي وجبهة المقاومة الوطنية المباشرة للجيش الاسرائيلي. وما أكسبها شهرتها هو طليعية عمليتها، لكونها فتاة، والمدى الذي احتلته في وسائل الإعلام الاجنبية قبل العربية أو المحلية. إلاّ أن لسناء رفقاء كثراً، «مغمورين» بشكل أو بآخر، ولا تعرف عنهم سوى قلّة من الناس، ولا تقلّ بطولاتهم عن سناء بشيء.
افتتح الشهيد وجدي الصايغ (ابن بلدة شارون في قضاء عاليه، نفذ عمليته في 13 آذار 1985 على معبر كفرحونة) عصر العمليات الاستشهادية في جمّول. تبعته سناء بعد أقل من شهر، وتبعها بعد عشرة أيام مالك وهبي «نسر البقاع» (ابن بلدة النبي عثمان البقاعية، فجّر نفسه برتل من الدبابات على مدخل جسر القاسمية الشرقي).
ومن حلب، جاء الفتى خالد الأزرق، وفجر نفسه صباح 9 تموز 1985 على الطريق الرئيسية بين مرج الزهور وحاصبيا بحاجزٍ مشترك للاستخبارات الاسرائيلية وجهاز الـ504 في جيش لحد. وفي اليوم نفسه، فجرت ابتسام حرب (من غريفة _ الشوف) سيارتها على جسر البياضة في حاجز مشترك مماثل. وعبّرت ابتسام في شهادتها المسجّلة عن مدى سعادتها بردّها على اتفاق 17 أيار.
لم تنته السلسلة، استشهد أيضاً علي غازي طالب ابن تكريت العكارية، ومريم خير الدين من بعلبك، وعمّار الأعسر من بانياس، ونورما أبي حسان من القبة في طرابلس، ومحمد قناعة من حلب في عملية مشتركة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وزهر أبو عساف من السويداء، وآخرهم الاستشهادية فدوى غانم ابنة بلدة الحيصة العكارية التي فجرت نفسها في 25/11/1990 بدورية إسرائيلية على طريق أرنون _ الشقيف.
بعد ربع قرنٍ على هذا «الزمن الجميل»، لا بدّ من الاعتراف بأن جبهة المقاومة الوطنية تستطيع وحدها وصل حلب بطرابلس، والسويداء ببعلبك وغريفة ببانياس. ليس انتقاصاً مما حققته المقاومة الاسلامية في ما بعد من إنجازات، بل دعوة من جيل انقطع عن الأحزاب الوطنية، لإعادة الوصل مع آلاف الشباب الذين يسكنهم هاجس المقاومة المسلحة. ومهما كانت المبرّرات والحجج، فهي واهية، لأن العودة إلى المقاومة هي الطريق الوحيد للعودة إلى الحياة.
                                                               ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجمعة، 17 أغسطس 2012

السوري الأجمل





السوري الأجمل

  لم تكن بلادك رحيمة معك. حملت تعبك من ضواحي مدن السلطان المسروقة من خبزك وأحلامك، ومشيت عارياً إلا من كرامتك نحو بلاد مأزومة أفسدتها الكتب السماوية وصغار جلادك.
***
  لقد سرق سلطان الزمان في الشام  تعبك أيها السوري الجميل. حقول قمحك تحرثها صواريخ عامود الأبد.. وفي بلاد الأ رز المريضة يقتلونك بشظايا حقدهم الاعمى.
***
 أيها السوري الحزين.. لا تحقد علينا. قالوا لنا أن لا وجود لك. لم نكن نعلم أن في بلادك فقراء يبحثون عن الخبز.
 أيها السوري الحزين.. لا تحقد علينا. قالوا لنا أنك مؤامرة كونية. فخطفناك من خلف عربة التفاح.. ومن حقولنا.
***
 أيها السوري الجميل.. سلطان الزمان قتلك وقتلنا.
أيها السوري الجميل.. سلطان الزمان قتل حلمك وحلمنا فحطم قيود عنصريتنا وجشعنا وفساد اولاد جلادك.
**
أيها السوري الأسمر .. لا تكن مثلنا.  صلاتك في بساتين الشوك لا يعرفها لصوص الله هنا.
أيها السوري الأسمر.. لا تكن مثلنا. سجادة صلاتك قمح جوعنا.

(عفيف)






الخميس، 9 أغسطس 2012

دعما للانتفاضة السورية




                                    بيان من  الامين وفحص دعما للانتفاضة السورية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   إننا نحن الموقعَيْنِ المعروفَيْن أدناه محمد حسن الأمين وهاني فحص ، المعروفين للقاصي والداني شكلاً ومضموناً ونهجاً وسيرة .. واختياراً نهائياً للاعتدال والتوسط والنسبية والتسوية .. انسجاماً مع مكوناتنا وخياراتنا الإيمانية والإنسانية والوطنية وا

لعربية ، وانتمائنا الاسلامي العام ، الذي لم نشعر مرة أننا مضطرون ولا طلب منا احد ، أن نتنصل من خصوصيتنا الشيعية من أجله ، وكنا دائماً على يقين انه لا يناسب التشيع أن نجافي روحية الاسلام التوحيدية الوحدوية ومترتباتها الفقهية القائمة على القبول المتبادل وتصحيح المسالك المختلفة في الفضاء الاسلامي الرحب والجامع ، وتواصلاً مع موروثنا الشيعي في مقارعة الظالمين ، أياً كانوا ، ونصرة المظلوم أياً وأينما كان ، والتزاماً منا بموجبات موقعنا الديني المنتقص من دون أن ينقص ، بالقوة والجمهرة والكلام التعبوي اليومي والزبائنية السياسية والعلاقة الريعية ، وحرصاً منا على دورنا الفكري الشيعي الاسلامي العربي والتنويري الذي لا ينكره الا مكابر أو غوغائي .. وتجسيداً لميلنا المعروف الى الاعتراض الجهير على الخطأ ، مهما يكن مرتكبه قريباً أو بعيداً .. وجلاءً لاختيارنا للوقوف المشهور في الزمن الصعب ، الوقوف الى جانب المقاومين للاحتلال الصهيوني لفلسطين ولبنان ، وضد الاحتلالات الوطنية ، التي استخدمت فلسطين والعروبة والممانعة ضد شعوبها فقط ..
ومن دون تفريق بين ظالم وظالم ومستبد ومستبد وشعب وشعب .. ندعو أهلنا الى الانسجام مع أنفسهم في تأييد الانتفاضات العربية والإطمئنان اليها والخوف العقلاني الأخوي عليها .. وخاصة الانتفاضة السورية المحقة والمنتصرة بإذن الله والمطالبة بالاستمرار وعدم الالتفات الى الدعوات المشبوهة بالتنازل من أجل تسوية جائرة في حق الشعب السوري ومناضليه وشهدائه مع ما يجب ويلزم ويحسن ويليق بنا وبالشعب السوري الشاهد الشهيد من الغضب والحزن والوجع والدعم والرجاء والدعاء ، أن يتوقف هذا الفتك الذريع بالوطن السوري والمواطن السوري .. وبنا في المحصلة قطعاً .. لأن من أهم ضمانات سلام مستقبلنا في لبنان أن تكون سوريا مستقرة وحرة تحكمها دولة ديموقراطية تعددية وجامعة وعصرية .
إننا نفصح بلا غموض أو عدوانية عن موقفنا المناصر غير المتردد للانتفاضة السورية ، كما ناصرنا الثورة الفلسطينية والإيرانية والمصرية والتونسية واليمنية والليبية ، وتعاطفنا مع التيار الإصلاحي والحركة الشعبية المعارضة في إيران وحركة المطالبة الإصلاحية في البحرين وموريتانيا والسودان .. مع استعدادنا لمناصرة أي حركة شعبية ضد أي نظام لا يسارع الى الإصلاح العميق تفادياً للثورة عليه وإسقاطه .. لقد زهق الباطل الذي كان دائماً زهوقاً ، أما إحقاق الحق فطريقه طويل ومعقد ومتعرج ، وفيه كمائن ومطبات كثيرة ، ويحتاج الى صبر وحكمة ويقظة وحراسة لدم الشهداء ، حتى لا يسطو عليها خفافيش الليل وقطعان الكواسر .. ويحتاج الى شفافية وحوار وود ونقد .. ولن نبخل بالود الخالص والنقد المخلص .. آتين الى الحق والحقيقة والنضال والشهادة من ذاكرتنا الاسلامية النقية ومن رجائنا بالله ومن كربلاء الشهادة التي تجمع الموحدين وتبرأ الى الله من الظالمين .

الجمعة، 27 يوليو 2012

النزوح الدمشقي 2







              بين الفقراء وأهل السلطة والمال

عفيف دياب


تتعدّد حكايات النزوح السوري إلى لبنان. للفقراء مطارحهم وحكاياتهم المحزنة، وللأغنياء فنادقهم وشققهم وحكاياتهم غير الأنيقة. وجهان لصراع تراكم صمته إلى أن بكته دمشق دماً في قصة نزوح أهلها نحو بلاد مأزومة نأت بنفسها عن مساعدتهم
*****
دموع ليلى ق. الدمشقية وهي تروي قصة هروبها من حي المزرعة الراقي في العاصمة السورية، لا تسمح لمحاورها بأن يطرح عليها سؤالاً واحداً عن أحوال الشام. تجلس السيدة فوق حقيبة عند معبر المصنع الحدودي قرب والدها العاجز عن المشي. يتوسل الأخير، المستند إلى عكازه، ابنته أن تكف عن البكاء. تتدخل شقيقتها منى، وتأخذ المبادرة لتوجز باختصار سبب نزوح العائلة من حي المزرعة العريق في دمشق الى بيروت.
«لا يحدث شيء عندنا في الحي، لكننا قررنا المجيء الى بيروت تحسباً» تقول، وتعود لتنتظر مع شقيقتيها ووالدهن وخادمة فيلبينية سيارة الأجرة اللبنانية التي ستقلّهم من المصنع إلى بيروت. تقصّ منى حكاية دمشقية لا تشبه حكايات فقراء دمشق في أحياء كفرسوسة والميدان والقدم والقابون والسيدة زينب وغيرها من مناطق التوتر. تقول إنه لا شيء يحدث في دمشق: «بس جايين كرمال نرتاح شوي ببيروت حتى عيد الفطر». وتضيف: «عادي ما في شي... متل ما عم تسمعوا». وتختم: «في مشاكل بالأحياء التانية. حوادث صغيرة وبتخلص. عنا ما في شي. مرتاحين».
ما لم تقله منى ابنة حي المزرعة في دمشق، ترويه عشرات النسوة في مراكز تجمّعات النازحين السوريين في سهل البقاع. فمنى وليلى وخادمتهما لا تسمح لهن المكانة الاجتماعية بالإقامة في مدرسة، كما فعلت أم سعد مع زوجها وأولادهما الثلاثة بعد رحلة هروب من الأحداث التي وقعت أخيراً في السيدة زينب إلى البقاع الغربي. أم سعد لم تنتظر سيارة أجرة لتقلها إلى منزل في بيروت. لم يكن عندها حرج أن تصعد في شاحنة «بيك ـــ آب» إلى مأوى للنازحين. لم تخف إلا على حياة أولادها ومصيرهم. رسمت مع زوجها خط سير النزوح القسري الى البقاع الأقرب إليهما من أي مكان آخر. يقول أبو سعد، المقيم في غرفة داخل ثانوية المرج الرسمية، إنه سمع نداءات من مكبرات صوت المساجد تطلب من الأهالي مغادرة الحي. ويضيف: «مشينا في البراري حتى وصلنا إلى منطقة في السويداء... نمنا في العراء، ولكن طائرة جاءت وقصفت بالصواريخ موقعاً فهربنا إلى أن وصلنا إلى هنا». يروي أبو سعد حكايات الحزن والموت في أحياء دمشق الفقيرة. وحكايات هروب الناس الى لبنان والسويداء «لم يبق أحد في السيدة زينب. معظم السكان نزحوا بسبب القصف والاشتباكات بين الجيش (النظامي) والجيش الحر»، أمضى خلالها الرجل 3 ايام سوداء في حياته: «ما خلصنا من القصف والموت حتى علقنا على معبر جديدة يابوس». ويضيف «وصلنا الى المصنع اللبناني وفتنا دغري على لبنان». خاتماً حديثه بالقول: «الله ينصر الجيش الحر عمّي».
حكاية أبو سعد وعائلته لا تختلف عن حكاية أحمد م. النازح من حي التضامن الدمشقي إلى البقاع: «خرجت مع زوجتي العراقية وابني من الحي حتى وصلنا إلى طريق المطار الدولي، ومن هناك استقللت سيارة الى جديدة يابوس حتى وصلت إلى المرج في البقاع». يضيف: «عند المصنع رفضوا إدخال زوجتي من دون فيزا، فجاء لبنانيون وتبرّعوا لي بالمال وساعدوني حتى وصلنا الى المدرسة». أما زوجته، فتروي كيف توفي طفلها في حي القدم جراء ضغط انفجار صاروخ. العراقية الهاربة من الموت في بلادها، حصد ابنها في ريف دمشق: «سقط صاروخ على الحارة فمات ابني من الضغط وعمره 4 اشهر». تتابع باكية: «ما صدقت انو هربت من العراق لارتاح حتى وجدت الموت أمامي في الشام».
جار لها في غرفة ثانوية المرج، خليل ع. يحكي بدوره قصة هروبه من بابيلا (ريف دمشق) ليلة الجمعة الماضية مع زوجته وأولاده الأربعة تحت القصف المدفعي المتبادل بين الجيشين النظامي والحر: «ما قدرنا نتحمل القصف فهربنا. بابيلا مدينة أشباح».
عشرات الحكايات عن القتل والموت يرويها النازحون من دمشق إلى البقاع. أكثر من 30 ألف سوري غادروا عاصمتهم وريفها خلال الأيام الماضية إلى البقاع ومختلف المناطق اللبنانية. أصحاب المال الذين اختفوا سريعا في الفنادق والشقق المفروشة لهم حكاياتهم المختلفة. لا تكترث جميلة ابو ح. التي تعرّف عن نفسها بأنها سيدة أعمال، بما يحكى عن شامها «شوية زعران لازم ينقلعوا يفلوا». تضيف من فندق 5 نجوم الذي أقامت فيه في البقاع الأوسط: «كنا مرتاحين وفجأة تغيرت الأحوال. اصطحبت الأولاد وأتينا إلى شتورة لنرتاح قليلاً. زوجي لا يزال في الشام. أمامه الكثير من العمل وهو ليس قادراً على تضييع الوقت وخسارة المال كرمى كم أزعر». سيدة الاعمال الدمشقية لا يعنيها إن سقط نظام الرئيس بشار الأسد أو بقي «مو فرقانة معي. آخر همي. المهم عايشين وما بتعنيني الحرية كثير». تتابع: «زوجي تعب كثيراً حتى نعيش مرتاحين. ولا أخفي أنه استفاد من قربه من النظام، لكن لم يعد يعنيني أمر النظام إن سقط، أو قصف الزعران بالصواريخ ودمّر منازل».
بخلافها، لا تخفي زميلتها في الفندق الحاجة ام محمد التقي خوفها على دمشق وسوريا. تتحدث عن أهمية الاصلاح السياسي والاقتصادي و«شوية حرية للشباب». وتضيف بلهجتها الشامية الجميلة «يعني يا ابني ما فينا نعطي حرية كبيرة لاولادنا.. هادول ما بيعرفوا كيف يشتغلوا. خرّبوا البلد كرمى لشي ما كتير مهم هلق». وتردف وهي تضحك: «الشام كتير حلوة. حرام اللي عم بيصير فيها». السيدة التي تفضل قضاء شهر رمضان بعيدا عن «القصف والرصاص» تؤكد أنها لا تحتاج إلى مساعدة من احد: «رزقنا كبير يا ابني، ونحنا مع النظام بس مع شوية اصلاحات وكل واحد هيك بياخذ حقو».
حكايات فقراء دمشق وأصحاب المال والسلطة، تعرفها الحكومة اللبنانية بكامل تفاصيلها. فالذين نزحوا قسراً من أصحاب المال والسلطة في سوريا لهم صداقات مع وزراء في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، حتى ان بعضهم يقيم في منازل وزراء وشخصيات مقرّبة من الحكومة. أصحاب المال تتحدث عنهم سياراتهم الفارهة وحركة تسوّقهم في شتورة وزحلة. ويمكن للمراقب في سهل البقاع أن يميز بوضوح بين قرب هذا الدمشقي من السلطة ومدى قرب الآخر من الثورة. حيث للفقراء مقار جهزت على عجل لإقاماتهم، وفنادق حجزت مسبقا لأغنياء الشام. وفي هذا الإطار يقول مصدر أمني في البقاع لـ«الأخبار» إن النظام السوري أبلغ جميع المقرّبين منه بوجوب إجلاء عائلاتهم مؤقتا إلى لبنان حتى تنتهي العملية الأمنية. ويضيف إن عشرات السوريين المقيمين في دمشق حجزوا غرفهم في الفنادق اللبنانية مسبقاً، فيما تولت مؤسسات أهلية ومدنية وخيرية مهمة تأمين مأوى للنازحين من أحياء دمشق الفقيرة. ويكشف أن جهازه الأمني رصد وجود شخصيات سورية مرموقة وبارزة في النظام: «وصلت الى البقاع وبيروت وكسروان والمتن خلال الأسبوع الماضي».
العبور السوري الى لبنان عبر بوابة المصنع، الذي تراجع على نحو كبير في الأيام القليلة الماضية، أحصته أجهزة رسمية لبنانية ومؤسسات إغاثة دولية. ويكشف مصدر في الامن العام اللبناني لـ«الأخبار» أن حركة العبور السوري تراجعت نحو لبنان مقارنة بما جرى في الأسبوع الماضي. ويضيف «سُجّلت حركة مغادرة خلال يومي الاحد والاثنين الماضيين، لكنها كانت خجولة». موضحاً أن نسبة مغادرة السوريين لبنان عبر المصنع «لا تتجاوز 10 في المئة ممن دخلوا مؤخراً». لافتا الى عبور 31 الف سوري الاسبوع الماضي.
هذا النزوح من دمشق نحو سهل البقاع والداخل اللبناني، أربك المؤسسات الانسانية الدولية مع تمنّع المؤسسات الرسمية اللبنانية عن متابعة الملف وإجراء إحصاء دقيق وموثق للنازحين الفعليين. ويقول ناشط في مؤسسة دولية لـ«الأخبار» إن فريقه أجرى إحصاءً أولياً أظهر وجود حوالى عشرة آلاف نازح سوري من دمشق وريفها «بحاجة ماسة الى مساعدات وطبابة»، موضحاً أن وزارة الشؤون الاجتماعية «أرسلت فريقاً طبياً عاين بعض الأطفال والمرضى السوريين في البقاعين الاوسط والغربي»، معرباً عن اعتقاده بأن «التوتر الامني في سوريا سيدخل لبنان والمؤسسات الاجتماعية الدولية في أزمة علاقة بسبب سوء التنسيق والمتابعة المشتركة».
سوء التنسيق اللبناني الرسمي في متابعة شؤون النازحين اللبنانيين، فتح الباب واسعاً أمام مؤسسات دينية واجتماعية لبنانية وهيئات بلدية للعمل وفق الإمكانات المتوافرة. يقول رئيس بلدية المرج في البقاع الغربي عماد الشموري إن بلدته استقبلت خلال الأيام الماضية 113 عائلة سورية نازحة من دمشق وريفها، موضحاً أن أكثر من 30 عائلة تقيم في ثانوية البلدة الرسمية، فيما توزعت بقية العائلات على منازل قدمها الأهالي، لافتاً إلى أن أهالي بلدته المرج يقدمون وجبات غذائية يومياً للعائلات النازحة. ويلفت الشموري إلى أن الحكومة اللبنانية لم ترسل أحداً لإجراء إحصاء «وحده الوزير وائل ابو فاعور أرسل أطباء وكميات من الادوية من وزارة الشؤون لمعاينة النازحين المرضى».
ــــــــــــــــــــــــــــــ
 الاخبار ـ العدد ١٧٦٧ الخميس ٢٦ تموز ٢٠١٢

الأحد، 22 يوليو 2012

النزوح الدمشقي





           معبر المصنع الحدودي...

             بوابة نزوحٍ سوري إلى لبنان






السبت، 21 يوليو 2012

حبيب الشرتوني



مقابلة | 

حبيب الشرتوني: قضيتي سياسية وليست قضائية




لا يخاف الشرتوني على المقاومة في لبنان (أرشيف)
 


عفيف دياب

 أطلقت مجموعة من الناشطين اللبنانيين حملة «العدالة لحبيب الشرتوني» كي لا تدخل قضيته في طيّ النسيان ويبقى طريداً وملاحقاً في «زمن حماية عملاء إسرائيل والإفراج عنهم بسيارات وزراء وبدعم سياسي وإعلامي وقضائي». هنا حوار مع الشرتوني يتحدث فيه عن الماضي والحاضر والمستقبل..
*******
حبيب الشرتوني المتهم باغتيال بشير الجميل الذي انتُخب رئيساً للجمهورية تحت الحراب الإسرائيلية صيف 1982، أراد كسر الصمت الذي يلفّ به نفسه منذ سنوات، ولم يخرقه إلا لماماً. منذ أن خرج من سجن رومية إثر سقوط حكومة العماد ميشال عون سنة 1990، يعيش الشرتوني بعيداً عن الظهور الإعلامي والسياسي والحزبي. يمضي أجمل أوقاته مع عائلته، كاتباً وقارئاً ومتابعاً لأدق التفاصيل اللبنانية والعربية ويوميات فلسطين. تحدّث لـ«الأخبار» عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن ملفه الذي نسيه رفاق الدرب وكل المقاومين والمناضلين عمداً أو تجاهلاً أو عن غير قصد. هو لا يخفي أسئلته الواضحة والصريحة والجريئة عن سرّ تجاهل قضيته منذ 30 سنة.
حبيب الشرتوني المقاوم والرافض أن يحوله الرفاق والأصدقاء والمحبون إلى أيقونة أو رمز، لا يجد سوى المقاومة خياراً وحيداً لإحقاق الحق والانتصار على العدو الإسرائيلي وعملائه في الداخل. وهو لا يخفي فرحته حين تسأله عن رأيه في إطلاق الرفاق والأصدقاء من مختلف العقائد والأيديولوجيات والطوائف حملة العدالة له. يقول: «لا يمكن تسميتها حملة دعم؛ لأنه لا جهة رسمية أو حزبية أو طائفة تقف وراءها، كذلك لا يمكن تسميتها «قضيتي»؛ لأنها ليست قضيتي الشخصية في الأصل، بل هي قضية الوطن والمجتمع الذي كان مهدداً بمرحلة أراد العدو فرض شروطه خلالها على المنطقة بأسرها». ويضيف: «هناك مجموعة أصدقاء من الوطنيين وغير الحزبيين، وإلى جانبها بعض الحزبيين الواعين الذين شعروا بأنهم مدينون لعمل حفظَ كرامتهم الوطنية من إذلال المحتل، وقد جمعهم هاجس مشترك عندما رأوا مستقبلاً غامضاً من خلال ما يحصل من أزمات متنوعة وما يواجهونه من صعوبات وطرق مُغلقة ومسدودة ومن تشجيع للخيانة والعمالة». ورأى أن الحملة التي انطلقت «تخدم إحقاق الحق، وتلتزم الأطر التشريعية والقانونية التي قامت على أساسها الدولة اللبنانية».
لكن لماذا تأخر إنجاز ملف حبيب الشرتوني قضائياً، وهل قوى المقاومة والممانعة مقصرة في هذا الأمر؟ يعترض حبيب هنا على تعبير الممانعة ويقول: «لم أستوعبه حتى الآن في مدى امتناعه عن قبول الأمر الواقع، بينما مقاومة هذا الأمر وهذا الواقع هو التعبير الأدقّ والأصح في رفض ما يُفرض علينا». ويضيف معاتباً أن قوى المقاومة «تجاهلت منذ البداية ملفّي ولم تجده عاملاً أساسياً من عوامل انطلاقتها الوطنية ثم الإسلامية بعد عام 1982 الذي شكّل بحكم توقيت الاجتياح خلاله مفصلاً استراتيجياً، فصلَ بين خطة إنهاء المقاومتين اللبنانية والفلسطينية مع إضعاف الموقف السوري، بغية إدخال المنطقة في عصرٍ إسرائيلي غير واضح الحدود ولا المعالم، وبين دحر الاحتلال بعامل الوقت والدخول في عصر قومي كان بإمكانه أن يحصّن جبهات الداخل ويرفع من شأن الجميع، لولا الأخطاء الفادحة التي وقعت ووضعت المنطقة مجدداً في ظل الهجمة عليها أمام حلقة صراع جديدة، مفتوحة على خيارات واحتمالات عدّة». ويسأل: «تخيل لو بقي الاحتلال جاثماً على ثلثي مساحة لبنان مع حتمية إكماله لما بدأه، وبقي بشير الجميّل على سدة رئاسة مطلقة الصلاحيات الدستورية والميدانية». يؤكد أن ملفه «ليس قضائياً على الإطلاق، بل سياسي بامتياز». ويرى أن «التشريعات اللبنانية التي تجيز في ضوء الدستور المساوي بين جميع اللبنانيين وضع القوانين الصحيحة والعادلة، تؤكد أن كل القوى والأطراف التي استفادت من إزاحة بشير واعتلت السلطة والامتيازات، عادت وتنكرت للملف الذي وجب أن يكون وطنياً لا سياسياً أو قضائياً». وقال إن «عدم إدانة العمالة، ولو كانت في أعلى الهرم، عادت وفتحت الباب واسعاً للعملاء الجدد الذين ظهروا بعد انتهاء الحرب. ولولا اغتيال عمالة رأس الهرم لما أحدثت قوانين في لبنان تدين ــ ولو من حيث المبدأ ــ الخيانة والعمالة، ولما تمّ العمل بأي منها». ويؤكد أن ما قام به لجهة «ضرب رأس العمالة في ذاك الوقت، كان ضرباً لمشروع تهويد المنطقة الساعي إلى إقامة إسرائيل الكُبرى ودويلات تيوقراطية سابحة في فلكها»
هل الرفاق في الحزب السوري القومي مقصرون في متابعة قضيتك؟ يرفض حبيب اتهام الرفاق كـ«أفراد» بالتقصير. «الرفقاء كأفراد لا يلامون على أي تقصير حصل معي أو مع ذوي الشهداء أو حتى مع عائلة أنطون سعاده. وهم طوال تاريخ الحزب لم يقصّروا في أداء واجبهم القومي، بالرغم من التضحيات غير المحسوبة التي تحمّلوها». يضيف: «لكن المؤسسة الحزبية التي تمثلهم رسمياً، كانت قد انحرفت تدريجاً عن المبادئ والهدف الذي وضعه الزعيم، حتى عندما كان لا يزال على قيد الحياة. ووفق تركيبة بلادنا السياسية الزاخرة بالاعتبارات والمصالح الفردية، هي المقصّرة بالدرجة الأولى والأخيرة؛ لأنها أمست في نهاية المطاف مؤسسة سياسية تخدم مصالح أفراد، ولا تتوانى في أية مناسبة عن تباهيها ببطولات القوميين وتنكرها في آن واحد لهم وللذين ضحوا طوال تاريخ الحزب حتى لا تضطر إلى الاعتراف بهم أو التعويض جزئياً عليهم». يستطرد قائلاً: «لن تتوانى غداً عن القول إن حبيب الشرتوني ليس هو المجيب عن أسئلتكم، بل هذا المحاور منتحل صفة، فلا وجود لي بالنسبة إليها منذ 1982».
يؤكد الشرتوني أنه غير مقيم في لبنان منذ عام 1990 و«قبله كنت في المعتقل»، و«أنا بعيد عن الساحة اللبنانية منذ 30 عاماً بالرغم من تصريحات آل الجميل الصحافية ومسؤولي الكتائب عن تجوالي بحرية في لبنان واجتيازي الحدود متى شئت، وعن رؤيتهم لي في الأشرفية وما شابه من كلام لا يهدف إلا إلى إثارة النعرات والغرائز التي تقوي الأحزاب الطائفية التي يفترض تسميتها الأحزاب الدموية».
كيف يرى الشرتوني مشاركة القوات اللبنانية اليوم في السلطة؟ يجيب: «صحيح أن بشير (الجميّل) قد أسس القوات (...) وقد تميّزت كوحدات مركزية تابعة للمجلس الحربي عن بقية الميليشيات اللبنانية بحجم التنظيم لديها وبحجم المجازر والجرائم أيضاً التي ارتكبتها في زمن الحرب، لكن عندما انتهى مشروع بشير الجميّل الذي تحوّل إلى مشروع إسرائيلي ـــ أميركي، ولو بتمويل عربي أحياناً، أمسى حزب القوات حزباً لبنانياً بمكوّنات طائفية كمعظم الأحزاب اللبنانية الأخرى، ولم يعد من الجائز اتهامهم إلى الأبد بالعمالة، وخصوصاً بعد أن نبتَ العملاء من كل حدبٍ وصوب، وصارت هناك أحزاب إسلامية تشاركهم توجههم السياسي المؤيد للاستقلالية، لكن تحت راية السياسة الغربية والخليجية بصفة عامة». يشير إلى انتخابات الكورة الأخيرة كمثال على تنظيم القوات اليوم ويقول: «شاهدنا في الأمس مدى دقّة تنظيمهم ومعرفتهم بإدارة اللعبة السياسية والتأثير على المزاج العام، بحيث استطاعوا الفوز في قضاء يُعَدّ شعبياً أو تاريخياً مؤيداً للحزب القومي، فيما تعرّض هذا القضاء في ما مضى ولهذا السبب تحديداً لعدد من اعتداءاتهم مع حلفائهم».
لا يخاف الشرتوني على المقاومة في لبنان. ويقول: «لست قلقاً عليها؛ لأنها متجذرة من ثلاثينيات القرن الماضي تحت أوجه عقائدية متنوعة». يؤكد أن مرحلة بناء الدولة القادرة على خوض الحرب وامتلاك القدرات الكاملة ومقاومة أعداء البلاد والطامعين بها «هي أشد مقاومة، وهذا ممكن لشعب سطّر أعتى البطولات وأعظمها».
يرفض الخوض في تفاصيل عملية اغتيال بشير الجميّل، فهي تحتاج «إلى سرد طويل، ولذلك سأرجئ الحديث عنه إلى وقت لاحق».
إذا عاد بك الزمن إلى الوراء، فهل ستنفذ عملية الاغتيال؟ يجيب: «لن يعود الزمن إلى الوراء، ولست هاوي اغتيالات، لكن اقتضت مني التضحية؛ لأن مصرعه أنقذ البلاد بالرغم من اعتباره عند أقلية قائداً للمقاومة المسيحية، وكأن هناك احتلالاً إسلامياً للمنطقة استوجب قيام هذه المقاومة أو أننا نعيش في القرون المظلمة وسط حروب دينية، لا في ظلّ جمهوريات أو قوميات أو مجتمعات، إنما فقط وسط فئات دينية متناحرة. أو كأنّ المقاومة تقتل الناس على الهوية وتستبيحُ أملاكهم وأعراضهم وتعادي مداورة كل فئات الشعب، بدل أن تدافع عنها. إنها المدرسة الانعزالية التي أخذت مجدها قبل أن تليها زميلتها السلفيّة أو التكفيرية في صناعة الأمجاد، وكلتاهما خطرٌ على مجتمع مؤلف من الأقليات».


عتب على القومي
حبيب الشرتوني عاتب بشدة على الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول: «اعتبرني الحزب منذ 1982 عبئاً عليه وتنكّر لي إلاّ من باب التباهي بالبطولة الآتية هكذا من خلف الضباب والسحاب وعلم الغيب. بينما كان هاجسي حمايته وعدم تعريضه أو تعريض أي فرد من أفراده لأي أذى. ومع الوقت اقتنع الناس أنني فتحت بطولة على حسابي، وهذا التعبير الساخر لسعيد ميرزا». ويتابع: «بعد ثلاثين عاماً من السجن والتعذيب والنفي وخسارة أهلي وأربعة أفراد من عائلتي وكل ما أملك، وعدم تكبيدهم أي خسارة، انزعجَ خاطرهم من تعبير صغير قلت فيه: نفّذت ما طُلب مني تنفيذه!». ويختم: «أنا أعتبر أن فكر أنطون سعاده ملك الإنسانية، ومسألة الوحدة القومية في بلادنا هي مسألة فلسفية واجتماعية تخاطب زمناً لم يأت بعد، ولن تحتاج تلك الوحدة المستقبلية اليهم ولا إلى جميلهم، بل عندما سيقتنع الشعب بها كما اقتنعت شعوب كثيرة، سيحققها من تلقاء إرادته وذاته، لأن هناك مراحل طويلة لا بدّ من اجتيازها قبل ذلك». 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
سياسة
الاخبار ـ العدد ١٧٦٣ السبت ٢١ تموز ٢٠١٢