يقف مطران زحلة عصام درويش على شرفة كاتدرائية سيدة النجاة. يجول بناظريه على بيوت المدينة وقرميدها الأحمر. يؤكد في قرارة نفسه أن المدينة تحتاج فقط إلى الحوار ووحدة الصف حتى تصبح فاعلة. يرسم المطران الذي أحدث «انتفاضة» سياسية في زحلة مسار دوره من خلال رئاسته الدينية لعاصمة الكثلكة في الشرق، محدثاً «نقزة» سياسية لدى الجميع
منذ تسلمه سدة مطرانية الفرزل وزحلة وسائر البقاع للروم الكاثوليك قبل 8 أشهر، أحدث المطران عصام درويش حراكاً سياسياً غير مسبوق في عروس البقاع. الدمشقي المولود في عاصمة الأمويين سنة 1945، ليس طارئاً على المدينة. فالرجل الذي دخل زحلة كاهناً لرعية حي حوش الأمراء أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وغادرها سنة 1996 إثر انتخابه مطراناً على أبرشية أستراليا، عاد العام الماضي ليكون راعياً أول لعاصمة الكثلكة في الشرق. راعٍ يحترف ألف باء السياسة، ويحفظ عن ظهر قلب كواليس زحلة وخباياها وتفصيلات عائلاتها، وفسيسفاء البقاع.
يبتسم المطران المفتخر بسعة علومه وثقافته، حين تسأله عن سر تخوف بعض السياسيين في زحلة من حراكه واتساع مروحة علاقاته السياسية. ويبتسم أكثر حين تسأله: «شو عملت بزحلة؟»، ليجيب بهدوء بعد أن يستوي على كرسيه: «مطرانية سيدة النجاة في زحلة أدّت، عبر التاريخ، دوراً وطنياً مهماً جداً. أنا على خطى من سبقني، وأريد أن أكون قائداً روحياً واجتماعياً ووطنياً لشعبي». يؤكد درويش أن دوره هذا سيكون بالتعاون مع قادة زحلة و«عندي تنسيق مباشر وغير مباشر مع السياسيين في هذه المدينة». لقد أحدثت انتفاضة في الحياة السياسية الزحلية؟ يضحك المطران من دون تعليق، ويؤكد أنه نجح إلى حد ما في «ترطيب» العلاقة بين السياسيين في زحلة، و«في الحد الأدنى صار هناك قبول من بعضهم لبعض. فكل شخص منهم حرّ في موقفه وموقعه السياسيين، وأن يختار ما يريد، ومن مصلحتنا أن يكون هناك تنوع في الرؤى والانتماءات السياسية».
حين أنجز درويش ترتيب عمل فريقه في أبرشية زحلة والبقاع للروم الكاثوليك، أطلق مبادرة لمصالحة السياسيين في عروس البقاع. نجح في جمعهم على طاولة واحدة، «ليست مصالحة بالمعنى الدقيق، أو أن يذوبوا بعضهم في بعض. نعم، كانت مصالحة من نوع آخر، أن يلتقوا ويتصافحوا بحرارة ويتحدثوا في ما بينهم، وأن يكون بينهم سلام وتحية». ويتابع: «هدفي كان كسر الجليد بين السياسيين في زحلة. وقد تحقق ذلك في خطوة أولى. فحين يرى مناصروهم كيف يلتقي قادتهم، سيؤدي ذلك إلى خلق جو من الراحة العامة»، لكن البعض قاطع مشروعك هذا؟ يجيب المطران درويش: «الوحيد الذي امتنع عن الحضور هو النائب إيلي ماروني، وقد زارني إثر اللقاء، وأعطى مبررات لمقاطعته، لكنني كنت أريد أن يتخطى أسبابه الشخصية».
مطران 8 آذار؟
يتهم البعض في زحلة المطران درويش بأنه «ينسف» كل ما بناه سلفه المطران أندريه حداد، وأنه يمشي في خط سياسي يخالف «وجدان المدينة السياسي». لا يخفي درويش انزعاجه من اتهام البعض له بأنه «مطران 8 آذار» في زحلة، فـ «أنا لا أعرف ماذا كان يجري هنا سابقاً. أنا أتيت من أستراليا. السياسة هناك تختلف عمّا هي عليه هنا. ففي أستراليا كنت صديقاً للحزبين: الحاكم والمعارض، ونسجت معهما علاقات جيدة خدمة لمصالح الجاليتين اللبنانية والعربية». ويتابع: «جئت إلى هنا لأنسج أيضاً العلاقات نفسها مع الفريقين (8 و14 آذار). البعض تجاوب معي، والبعض الآخر للأسف لم يتجاوب». ويضيف: «أصر على أن أكون على مسافة واحدة من الجميع». لا يخفي المطران معرفته بوجهة نظر هذا أو ذاك في زحلة ولبنان، و«البعض يريدني كلياً في فريقه، لذا فهو يراني مع الفريق الآخر». ويؤكد أنه لم يطلق «تصريحاً سياسياً واحداً لمصلحة هذا الفريق على حساب ذاك».
نفي المطران درويش انحيازه إلى هذا الطرف على حساب الآخر في زحلة ولبنان، لا يحجب الكلام المباح عن اقتصار زياراته السياسية على قادة 8 آذار دون سواهم، يقولون في زحلة إنك زرت النائب ميشال عون والسيد حسن نصر الله، ولم تلتق سمير جعجع والرئيس أمين الجميّل؟. يجيب بهدوء وبلا امتعاض من الكلام الزحلاوي المباح: «زرتُ النائب أنطوان زهرة وشكرته على حضوره حفل توليّ المنصب، وكان لقاءً جميلاً وتربطني به صداقة قديمة من أيام أستراليا». يتابع: «زرت مفتي البقاع الشيخ خليل الميس وتيار المستقبل هنا، وإن شاء الله سأزور قادة من 14 آذار في بيروت». وهل ستزور قائد القوات اللبنانية سمير جعجع؟ هنا لا يخفي المطران أن جعجع «دعاني لزيارته، وإن شاء الله بعد عيد الفصح سألبّي دعوته»، و«أنا لا أعرفه شخصياً، لكنني على تواصل مع القواتيين هنا».
المطران البرتقالي؟
كيل الاتهامات السياسية للمطران درويش، لم يقف عند تهمة «مطران 8 آذار»، بل وصلت الحسابات الزحلاوية إلى حد إطلاق تسمية «المطران البرتقالي» عليه. فدرويش يفتخر بأنه يحمل «فكر الإصلاح والتغيير» قبل أن يولد التيار الوطني الحر، أو «التيار البرتقالي». يصف علاقته بالنائب ميشال عون بـ«الجيدة جداً»، رافضاً تفسير أسباب «نقزة» بعض السياسيين من نشاطه السياسي: «لم ولن أنافس أحداً في السياسة، لكن حقل الشأن العام واسع جداً». يعبّر عن امتعاضه من الوضع الإنمائي المتردي في زحلة ومنطقتها، محمّلاً جميع العاملين في الشأن العام مسؤولية التقصير، ولا سيما أولئك الذين وصلوا إلى مواقع وزارية ونيابية. فـ«زحلة تدفع ثمن الانقسام السياسي». يعترف باستحالة جمع وزراء زحلة ونوابها حول إنماء المدينة؛ «لأننا دخلنا في مرحلة الإعداد للانتخابات النيابية، ومن الصعب جمعهم اليوم».
المطران الناخب
إحصاءات بعض الشركات المختصة في العمل الانتخابي أظهرت في الآونة الأخيرة وجود حيثية شعبية للمطران درويش، يمكن أن «يجيّرها» هنا أو هناك. فالرجل يتواصل مع مختلف شرائح زحلة، وهو بصدد عقد لقاءات مع التجار والصناعيين والمثقفين لتكوين «رأي عام» يسعى إلى رفع شأن زحلة والبقاع، و«سأجيّر هذه الحيثية الشعبية لزحلة، لا لطرف ضد آخر حتى يكون صوت زحلة هو صوت الأصل لا الصوت الخارجي». وهو يرى أن الانقسام السياسي داخل البيت الزحلاوي الكاثوليكي (النائب السابق إيلي سكاف والوزير نقولا فتوش) «ليس حاداً، وحين ألتقي المعنيين، لا ألمس خلافات حادة، بل لكل منهم خياراته الاستراتيجية، ولا أستبعد أن تتلاقى في المستقبل». يؤكد أنه يعمل لتوحيد الصف الكاثوليكي «كما أعمل لتوحيد بقية الصفوف»، معلناً أنه لم يعمل على مصالحة سكاف ـــــ عون، و«لم يطلب أحد مني ذلك، وإذا طلب فأنا مستعد لتقريب وجهات النظر. إنني في خدمة المصالحة بين الجميع».
سلاح حزب الله لا يقلقني
يرسم مطران زحلة والبقاع للروم الكاثوليك خطاً تحت بند العلاقة مع حزب الله. إذ أن للحزب حضوره السياسي والشعبي في مدينة زحلة. فحي الكرك ليس إلا جزءاً أساسياً من مكونات المدينة الاجتماعية والسياسية، ويعرف درويش في قرارة نفسه أهمية هذا الوجود في مدينة تسعى منذ انتهاء الحرب الأهلية واتفاق الطائف إلى تكريس خط الانفتاح والحوار الدائم مع كل البقاع، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. «العلاقة جيدة جداً مع حزب الله وحركة أمل. وزرت الرئيس نبيه بري، واستقبلتني حركة أمل في الجنوب». ويتابع: «حزب الله كان سبّاقاً في محبته لي حين زارني وفد منه برئاسة الشيخ محمد يزبك، ثم كانت زيارتي لسماحة السيد حسن نصر الله من ضمن التشاور مع الجميع، ونسج علاقات صداقة». يضيف: «علينا نسج علاقات صداقة مع كل القوى الموجودة على الأرض هنا، وزيارتي للسيد نصر الله من ضمن سلسلة زياراتي»، مؤكداً أن حزب الله حزب مقاوم لإسرائيل و«سلاحه لا يقلقني».
مسيحيّو سوريا في أمان
يرفض المطران «الدمشقي» التدخل الخارجي في شؤون سوريا، و«ما لا أفهمه هو كيف يحق لدول أن تتدخل في أمور بلد آخر، خصوصاً إذا كان تدخلاً مسلحاً، أو تحريضاً على قتل الإنسان العربي». يجزم بأن سوريا لن تشهد حرباً أهلية، و«كدمشقي أقول إن السوري يرفض الحرب، فهو بطبعه إنسان مسالم ومسامح ويحب وطنه. لذلك، تكسّرت المؤامرات الخارجية على صخرة الإرادة السورية».
يرفض درويش كل الكلام الذي يخوّف السوري المسيحي من شقيقه المسلم، مبدياً عدم تخوفه من فرضية وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم: «أنا لا أخاف ذلك أبداً؛ لأنه عبر التاريخ، المسلمون السنّة هم الذين حافظوا على الوجود المسيحي في سوريا»، مؤكداً أن «الخوف من مكان آخر لا من السوريين».
قمة روحية بعد أسبوعين
دعا المطران عصام درويش بصفته رئيساً للجنة الحوار الإسلامي ـــــ المسيحي التابعة للبطاركة في لبنان، إلى عقد قمة بقاعية روحية مسيحية ـــــ إسلامية في زحلة. ويقول إن الاستعدادات لعقد القمة في 24 الجاري أُنجزت، واللقاء سيحضره جمع من السياسيين والشخصيات التي لها تأثير في المجتمع المدني البقاعي «لكي نخفف من التشنجات ونعمل معاً من أجل التلاقي»، كاشفاً أن اللقاء سيشارك فيه أكثر من مئتي شخص. وذكرت مصادر لـ«الأخبار» أن من بين المتحدثين في المؤتمر سيكون عضو مجلس الشورى في حزب الله الشيخ محمد يزبك، الذي تطورت علاقته بالمطران درويش سريعاً خلال الأشهر الماضية. كذلك يتولى عضو المكتب السياسي في الحزب غالب أبو زينب جانباً من التواصل بين قيادة حزبه ودرويش، وهو شارك في اللقاء الأخير الذي جمع المطران والسيد حسن نصر الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ