لا حـق لأحـد فـي الغبـاء! |
ميشيل كيلو لا عيب في أن يغلط المرء، إلا إذا كانت غلطه يخرب بيت غيره. يحق لكل مخلوق أن يتبنى آراء خاطئة وأن يعبر عنها و»يناضل» من أحل تعميمها وإقناع الآخرين بها، ويحق لكل مخلوق رفض ما يقوله غيره والرد عليه بالطريقة التي تعبر عن مستواه العقلي أو النفسي - في حال كان بلا مستوى عقلي -، خاصة إن كان من ترفض آراؤه أو قراراته يؤمن بحق الآخرين في أن يكونوا على صواب، وحقه هو في أن يكون على خطأ، وفي أن يصحح خطأه. من حق أي كان التعامل مع الآخرين وكأنه لا يعرفهم، رغم أنه ربما يكون قد أمضى فترة مهمة من حياته في حوار معهم أو في صحبتهم. أخيراً، يحق لأي كان توزيع شهادات الوطنية ذات اليمين وذات الشمال، وتقديم النصح لمن يشاء من دون حساب. نحن، كتاب وكتبة هذا الزمن نطرح قراءتنا للواقع في سوق الآراء والأفكار والمواقف المتناقضة المتضاربة، ويعلم بعضنا أن ما يقوله هو مجرد اجتهادات تستند إلى فرضيات غالبا ما تكون ناقصة أو أحادية الجانب، وأن أقواله وآراءه ليست منزلة أو معصومة، وأن من الطبيعي أن تلاقي القبول أو الرفض، لأن هذه كانت حال البشر في كل زمان ومكان.لكنه لا حق لأحد في الغباء، خاصة إن كان من العاملين في الشأن العام. أقول هذا لأصوات متفرقة تعالت من أماكن بعيدة استنكرت لقائي مع شخصية رسمية سورية وتخوّفت منه، حتى أن أحدهم خشي أن أؤكل يوم أكل الثور الأبيض، وذكرني بأن ما فعلته في الماضي لم يحمني من السجن، ونسي أنني لو لم أفعله وأنا بكامل قواي العقلية لما أوصلني إلى السجن أي شيء! ما علينا، يستمد موضوع هذه المقالة أهميته من تباين مواقف الناس حول ما يدور في بلادنا: سوريا، التي نحبها جميعاً ونريد أن تخرج من أزمتها الراهنة إلى ما فيه حرية وحقوق شعبها، وسلامها وأمنها واستمرارها كدولة هي ركن المشرق العربي، إن أصابها ـ لا سمح الله ـ مكروه، كان في ذلك نهايتها ونهايته، خاصة بعد مأساتي فلسطين والعراق .سأستعرض في عجالة أحد محددات موقفي من أزمة سوريا الحالية، بدءاً بأشد تظاهراتها عمقاً: أعني إنكار طابعها كأزمة والتعامل معها كمؤامرة، مع ما يترتب على ذلك من مشكلات تزيدها، كأزمة، تعقيداً وتجعلها عصية أكثر فأكثر على الحل، بالنظر إلى أنها تدفع بعض مكونات الوضع وعناصره وقواه إلى الهامشية، وبعضها الآخر إلى مواقف تصعيد متقابلة تفاقم طابعها والأحوال العامة، وتضفي عليهما عنفاً لا يني يتعاظم، مع أن المطلوب حل الأزمة، بروية يُمليها وعي الواقع على حقيقته، كأزمة، ورؤية منفتحة على الإقرار بما قد يكون هناك من أخطاء والاعتراف بأن للآخر حقوقاً يجب أن تلبى.لا حاجة إلى القول: إن التعامل مع أزمة يختلف اختلافاً جذرياً عن التعامل مع مؤامرة. الأزمة مشكلة أو جملة مشكلات لم تحل. وهي تفقد صفتها كأزمة بمجرد أن توجد لها حلول تتفق مع طبيعتها، التي قد تضم عوامل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية... الخ، فإن أحجم المعنيون عن حلّها بوسائل تزيل أسبابها، تحوّلت إلى أزمة مستعصية وانعكست أكثر فأكثر على الحياة العامة في جملتها، خاصة إن كانت مركبة واكتسبت بعداً اجتماعياً يدفع الناس إلى المطالبة بإزالتها، عبر إصلاحات تتخطّى مظاهرها الخارجية إلى الأبنية العامة العميقة التي أنتجتها، إن كانت من طبيعة شاملة. في هذه الحالة، تغدو الأزمة عاملاً كاشفاً يفصح عن طبيعة الأمر القائم وأهلية القائمين عليه، ونوعية تفكيرهم وخياراتهم وارتباطاتهم، ينجم عنها تغيير يخرج الواقع من مأزق لا خلاص منه في إطار الوضع الذي أنجبه وبمفرداته، ويأخذه إلى بديل هو بداية تكوينية جديدة بالنسبة إلى سائر أطرافه. بقول آخر: ثمة في كل أزمة سياسات ومصالح ومجموعات اجتماعية وقوى سياسية وخيارات وثقافة وتوافق واختلاف وبدائل، فهي كالمرض تمتحن صحة الجسم السياسي والمجتمعي، وتبين قدرتهما على التفاعل، ونوع التفاعل، مع ما ينشأ فيهما من مشكلات، إن أهملا حلها انقلبت إلى أزمة، وإن استمرت أدت إلى انعكاسات تطاول مجمل البنيان المادي والروحي للبلد، والإجماع الوطني وعلاقات الحقل السياسي، ورؤى وخيارات مكوناته، وأنتجت تناقضات متفجرة الطابع، خاصة أن وقع خلاف بين أهل الحل والعقد حول سبل التصدي لها، تحول إلى صراع داخلهم قد يبدأ محدوداً لكنه يتسع ويتفاقم باستمرارها، إلى أن يصير جزءاً منها يسهم في شل قدرة من يتصدون لها وفي إضعاف مسعاهم، خاصة إن نشأ توازن بين القوى المتصارعة يمنع أو يصعّب الخروج منها، أو إذا دخلت قوى خارجية على خط الصراع، وشرعت تمسك بالمفاتيح التي تمكّنها من إدارته لمصلحتها. نحن اليوم ـ للأسف - على مشارف وضع كهذا، فالأزمة لا تحلّ بالوسائل التي تستخدم للتخلص منها، وهي تدخل أكثر فأكثر في طور احتدام واحتجاز داخلي، وتنفتح أكثر فأكثر على تدخلات خارجية ستبدّل طابعها، وتزيدها تعقيداً، وتضعف أطرافها. ليست الأزمة العامة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية... الخ، التي تواجه مجتمعاً أو نظاماً ما ولا يمكن أن تكون مؤامرة، ما دامت الأزمة التي تنجم عن مؤامرة من طبيعة أمنية/ سياسية، وبما أنها تكون محدودة وتتجه ضد أو تقتصر على قوى تعمل غالباً في الصعيد السياسي، وتنصبّ على جوانب من علاقات مكوّناته، وتستخدم في حلها وسائل سرية غالباً، وتذهب دوماً نحو العنف وكثيراً ما تنهض عليه، بحيث لا يعقل أن ينخرط مئات آلاف أو ملايين المواطنين في أي وطن، من المطالبين علانية بحقوق تنتمي إلى الحقل السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو إلى هذه الحقول مجتمعة، في مؤامرة، أو يكون لحراكها طابع المؤامرة: الذي يتسم بطابع فئوي/ أقلوي وسري، ويكون غير دستوري وشرعي. من هنا، لا تقهر المؤامرة بالوسائل التي تحلّ الأزمات، ولا تنتمي إلى الحاضنة التي تنتسب الأزمة إليها، وإذا كانت الأزمات تستغلّ من قبل من يريدون الانخراط في مؤامرات، فإنها تبقى مختلفة عن الأخيرة، في طابعها ومداها وحواملها وسبل معالجتها، فالأزمة، متى صارت عامة بصورة خاصة، لا تعالج بالقوة، لأن موضوعاتها ليست أمنية أصلاً، رغم أنها تترك انعكاسات واضحة على صعيد الوحدة الوطنية والنظام العام، بينما تعالج المؤامرة بواسطة الأمن وسياساته.ثمة علامات تشير إلى أن النظام في سوريا لا يرى ما يحدث كمؤامرة، وإن قال إعلامه وتصريحات بعض مسؤوليه ذلك. لو كان يعتبره مؤامرة، لما قال بالحوار الوطني ووعد بإجرائه، علماً بأن الحل الأمني يعني، بالمقابل، أنه يتعامل معها، بما هي أزمة، من خلال وسائل لا تصلح للتخلص منها. هنا يكمن جزء مهم من المشكلة التي نواجهها جميعاً: مشكلة الإقرار الضمني بوجود أزمة يتم إنكارها علناً والتعامل معها بصفتها هذه، ومعالجتها كمؤامرة وبوسائل مكافحة المؤامرات، التي لن تنجح في حلها، لكونها تستهدفها حيث لا توجد، مع ما يترتب على ذلك من تفاقم في الأزمة خاصة، وفي الأوضاع العامة إجمالاً، ومن تخلق بيئة للتآمر ولقرينه: العنف، ليس النجاح في كبتها وحتى التخلص منها كافياً بأي حال للتخلص من الأزمة، التي ستستمر في التفاقم نتيجة الامتناع عن التصدي لها بصورة مباشرة وصريحة، حيث هي قائمة ومنذ فترة طويلة: في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة... الخ، كما في علاقات هذه الحقول بعضها ببعض، وعلاقات السلطة بالدولة والمجتمع والعكس... الخ.لا بد من معالجة الوضع السوري الراهن باعتباره نتاج أزمة لا تحل بالقوة، ولا بد من حل سياسي لها يتم في حاضنة عامة تجمع الأطراف الراغبة في حلها والقادرة عليه من سلطة ومعارضة، على أن يكون للمواطن العادي، المطالب بحلها، أي بحصته من الحرية والثروة، دور فاعل فيه، يبدل موقعه من الحياة العامة، ويتيح له الانتقال من هوامشها الخارجية إلى مركزها، ضمن علاقة جديدة بينه وبين السلطة والدولة، تنهض على أسس متوافق عليها يتم بلوغها حوارياً وسلمياً: من دون عنف أو إكراه وخارج أي فكر أو فعل تمليهما موازين قوى تفرض العنف والإكراه. هذا الحل يجب أن يتم في إطار وحدة الجماعة الوطنية السورية، وسلامة وأمن مكوناتها جميعها، ولا مفر من أن يكون نتاج تسوية تاريخية حاملها الرئيس المجتمع المطالب بالتغيير وتعبيراته السياسية، على أن يكون المتمتع الرئيس بثمارها وعوائدها، من دون أن يعني ذلك الانخراط في صراعات نهائية، ووقوع انقلابات لا يعرف أحد نتائجها، في بلاد صار من الواضح أنها تعاني من نقاط ضعف ترتبت على طول وتشعّب أزمتها، بعد أن نحّت نخبها السائدة السياسة عن علاقاتها مع مجتمعها، وأحلت محلها قدراً غير سياسي من العنف، كأنها لا تريد العقد الاجتماعي ولا تقبل أية صورة من صوره، ولا تعلم أن المواطن يتخلى للدولة عن حقه في العنف مقابل منحه الحق في الأمن، في جل مشكلاته بالسياسة وليس بالعنف، وأن احتكارها للعنف يعني امتناعها عن استخدامه، وإخراجه نهائياً من الشأن العام، وعدم اللجوء إليه خلال الأزمات، وحتى عند التصدي للمؤامرات، التي لا بد أن تفشلها السياسة ووسائلها: بصورة استباقية دوماً، فإن حدث ووقعت بالعنف في حدود دنيا ومدروسة تطاول المتآمرين أنفسهم، بينما يستمر بقية المواطنين في التنعم بالسلام والأمن، وممارسة أدوارهم العادية في أجواء من الطمأنينة والحرية.لا يحق لأي سوري التعامل بغباء مع وطنه، وإلا ضاع وأسهم في ضياعه. ولا يحق لأحد أن يخرجنا من الوضع الحالي إلى وضع أسوأ منه، حبا بشعارات براقة أو مغرية، أكان ذلك بالأصالة عن نفسه أم تقليدا لحالات عربية ودولية عرفتها بلدان أخرى، لا يضمن نجاحها هناك نجاحها في تحقيق الهدف ذاته هنا، كما لا يضمن بقاء سوريا على حالها الراهن، وطنيا ومجتمعيا. لذلك، لا بد من حل سياسي يتصدي بكل جدية للأزمة القائمة، وهي مزمنة وصعبة ومن نتاج السياسات والخيارات الرسمية، لننتقل سلميا وتوافقيا وفي إطار آمن يلبي حاجة جميع السوريين إلى نظام حريات يحفظ مكونات الحقل السياسي السوري، وإن أعاد النظر في أوزانها وأدوارها، ويضع بلادنا أمام تاريخ جديد هو لنا جميعا، نطوي معه ما نعانيه اليوم، وعانينا منه خلال تاريخنا الحديث كله، من ظلم وتهميش، نرى فيه الأمل الذي بقي لنا، وإسهامنا الوطني والقومي والإنساني في نهوض عربي نعيش بداياته، ولا بد أن يكون لنا فيه دور يليق بنا كمواطنين عرب أحرار يعرفون كيف يعالجون مشكلاتهم، ويحافظون على سلامة وقوة وحرية دولتهم ومجتمعهم. (السفير : 21\5\2011 ) |
(إلى الأصدقاء محمد ديبو وعمر كوش وضياء الدين دغمش، المعتقلين حتى هذه اللحظة، وما بدّلوا تبديلاً)![]() |
(رويترز) |
ما يجري في سوريا من اعتقال وكبت وقتل وتعذيب لا يُمْكن تبريرُه ولا السكوتُ عنه، أيّاً كانت الذرائع.
أولاً، لا يمكن التسليمُ بأنّ البديل من النظام الحاليّ سيكون (بالضرورة) فوضى مطلقةً، أو نظاماً سلفيّاً، أو تطبيعاً مع العدوّ الإسرائيليّ. التسليمُ بهذا الأمر هو من قبيل الحتميّة التاريخيّة اليسراويّة المقلوبة (عودة التاريخ إلى الوراء بدلاً من التقدّم إلى الأمام). وهو يَنْقض ما أفرزتْه، حتى اليوم، ثورتا مصر وتونس، إذ تَبيَّنَ أنّ «الفزّاعة» الإسلاميّة ذابت في ملايين المنتفضين من كلّ المشارب والاتّجاهات. والأهمّ أنّ ذلك التسليم الحتميّ إهانةٌ للشعب السوريّ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لأنه يكاد يَجْزم أنّ هذا الشعبَ طائفيّ جينيّاً، ومنبطحٌ أمام إسرائيل بالفطرة، وأنّه عاجزٌ عن أن يُنتج شيئاً إلّا نظاماً قمعيّاً جديداً، أو حرباً أهليّةً، أو استسلاماً أمام العدوّ القوميّ.
إنّ منطقاً كهذا مستهجنٌ خصوصاً حين يَنْطق به قوميّون (عربٌ وسوريّون اجتماعيّون) لأنهم، دروْا أو لم يدروا، يَطْعنون كلَّ رموز النضال الوطنيّ السوريّ والقوميّ العربيّ: من سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السوريّة الكبرى (1925 ــ 1927) على الانتداب الفرنسيّ، مروراً بالمجاهد عزّ الدين القسّام، الذي ترك «جَبْلة» السوريّة ليقودَ ثورةً فلسطينيّةً ـــــ عربيّةً على البريطانيين في ثلاثينيّات القرن الماضي، وانتهاءً بالمئات من السوريين الذين استُشهدوا (أحياناً على الضدّ من إرادة نظامهم) دفاعاً عن عروبة فلسطين والعراق ولبنان، وبمئات آخرين من الفنّانين والمثقّفين الذين أفنوْا حياتَهم في تجديد الفكر القوميّ العربيّ (واليساريّ المعادي للظلم)، فضلاً عن أهل الجولان الذين يواصلون منذ أكثر من ثلاثة عقود تمسُّكَهم بهويّتهم السوريّة العربيّة رغم إغراءات الاحتلال الإسرائيليّ.
إنّ عروبةَ سوريا، وإيمانَ الشعب السوريّ بقضيّة فلسطين، ودعمَه الهائل عامَ 2006 وقبلَه لنضال المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، أمورٌ تتخطّى النظامَ وحزبَ البعث معاً. وإنّ تصويرَ الشعب السوريّ كأنّه لقمةٌ سائغةٌ في فم السلفيّين وعملاء الأميركان، لولا استئسادُ النظام عليه، إنما هو احتقارٌ ما بعده احتقارٌ لـ«قلب العروبة النابض»، ونقضٌ صارخٌ لكلّ المدائح التبجيليّة التي لا ينفكّ الإعلامُ السوريُّ يقذفها على «شعب سوريا».
لكنّ الاستبدادَ الشاملَ والمديدَ (الذي قَزّم الأحزابَ والنقابات إلى درجة إلغائها أحياناً)، كما المواجهات الحاليّة الدامية، لا تلغي إمكانيّةَ نشوء «بدائلَ» مخيفة (كالفوضى والصراع الأهليّ). لا حتميّةَ في أمور كهذه. لكنّ مسؤوليّة النظام، الذي يُمْسك بتلابيب الدولة ومقدّراتها الأمنيّة والماليّة، أكبرُ من مسؤوليّة أيّ أحد، ولا سيّما في الحؤول دون أن تنجرفَ البلادُ إلى ما يُشْبه الاحترابَ الداخليّ وفقاً للسيناريو اللبنانيّ أو العراقيّ. والخطواتُ الأولى التي يمْكنه القيامُ بها لنزع فتيل الاحتراب المقيت هي: إلغاءُ قانون الطوارئ فعلاً لا قولاً، وفتحُ تحقيق نزيه وشفّاف في عمليّات قتل الشهداء من المتظاهرين والجنود ورجال الشرطة على حدّ سواء، ومحاسبةُ المسؤولين عن الانتهاكات والمظالم الأخيرة خصوصاً، ومحاكمةُ رموز الفساد المحتكِرين لثروات البلاد (أسماؤهم معروفة وتردِّدُها ألسنةُ المتظاهرين كلّ يوم)، وتعديلُ المادة الثامنة ـــــ الفصل الأول من الدستور (وهي تنصّ حرفيّاً على أنّ «حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ هو الحزبُ القائدُ في المجتمع والدولة...»). وحدَها هذه الخطواتُ يمكن أن تكون بشيراً حقيقيّاً ببداية التحوّل من الدولة الأمنيّة أو دولة النظام، إلى دولة المواطنين، دولة القانون والمؤسّسات.
■ ■ ■
ثانياً، إنّ الإيحاء أنّ بقاءَ النظام في السلطة بأيّ ثمن، ولو بالقمع والتنكيل، خدمةٌ للمقاومة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة، على سبيل المثال لا الحصر، أمرٌ لا أعتقد أنّ كثرةً من مناضلي هاتين المقاومتين سيَقْبلونه، وإنْ أقرّوا بدَيْن النظام عليهم تسليحاً وتدريباً وموقفاً سياسيّاً «ممانعاً». بل يخيّل إليّ أنّ أكثر مَن يعي بَهَاءَ المطالبة المشروعة بالحريّة والكرامة في سوريا هو مَنْ لَقِيَ في الأمس، أو يَلْقَى اليومَ، التعذيبَ والأسْرَ والاعتقالَ على أيدي الصهاينة في فلسطين ولبنان، أو على يد قوّات الاحتلال الأميركيّ في العراق. فكيف إذا أُوهِمَ هذا المقاومُ اللبنانيّ أو الفلسطينيّ أو العراقيّ بأنّ الدعمَ الرسميّ السوريّ الذي يناله يُستخدم اليومَ ذريعةً لدى حلفاء النظام (في لبنان خصوصاً) للسكوت عن «تعفيس» المتظاهرين في «البيضا» كالقمل، وعن تقليع أظفارهم، والتبويلِ عليهم، وإقحامِ أشياءَ في مؤخِّراتهم... وتصويرِهم بكاميرات الهواتف الخَلَويّة فوقَ ذلك تبجُّحاً وغروراً؟ بل لعلّي أذهبُ إلى أبعد من ذلك لأقول: إنّ تغاضي المقاومين في حزب الله عن ممارسات السلطات السوريّة في حقّ المتظاهرين، أو التخفيفَ من آثارها، أو تبريرَها بذريعة أولويّة المعركة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، يقوِّض شيئاً عزيزاً من صورة الحزب البهيّة في عيون أنصار المقاومة اللبنانيّة في كلّ مكان.
نعم، إنّ انتصارَنا على العدوّ في عامي 2000 و2006 ما كان ليكون لولا الدعمُ السوريّ. ونعم، إنّ إسقاطَ اتفاق 17 أيّار 1983 بين السلطة اللبنانيّة والعدوّ برعاية أميركيّة قد كان بدعم سوريّ متعدّدِ الجوانب لقوى «المعارضة» اللبنانيّة (الملتبسةِ دوماً). بَيْدَ أنّ الوفاء لهذا الدعم وذاك لا ينبغي يكونَ على حساب الشعب السوريّ الذي فَتَحَ بيوتَه وقلوبَه وأذرعتَه لاستقبال نازحينا من الجنوب والضاحية وكل أرجاءِ لبنان صيفَ عام 2006. الشعبُ السوريّ، بكلّ فئاته، لا النظامُ وحدَه، كان أحدَ أبرز الداعمين لمقاومتنا في لبنان. وواجبُ المقاومة الأخلاقيّ، وواجبُ إعلامِها بنحو خاصّ (وتلفزيونِ المنار على نحو أخصّ)، هو عرضُ المطالب الشعبيّة السوريّة المحقّة، ولو إلى جانب عرض موقف النظام أيضاً إنْ كان دعمُها المباشرُ والصريحُ لتلك المطالب يسبِّب للمقاومة إحراجاً تجاه النظام وتجاه إيران. أمّا أن تصبحَ المقاومةُ وإعلامُها في لبنان بوقاً لانقديّاً للسياسات السوريّة الحاليّة، فهو ما سيُضْعف تأييدَ الشعب السوريّ نفسِه لها.
■ ■ ■
ثالثاً، إنّ تحميلَ ما يجري في سوريا للسلفيّين لا يُقْنع إلّا الموالين للنظام ولاءً أعمى. فالتظاهرات حاشدةٌ، بالآلاف وبعشرات الآلاف أحياناً، وشعاراتُها (معظمُها في الأقلّ) شعاراتٌ غيرُ طائفيّة ولا مذهبيّة، بل تركِّز على الحريّة والوحدة الوطنيّة ومكافحة الفساد، خلافاً لما يزعمه المفكّرُ السوريّ فراس السوّاح. أمّا انطلاقُ كثير من تلك التظاهرات من الجوامع، أيّامَ الجمعة، فلا يعني أنّ المتظاهرين سلفيّون، بقدْرِ ما يعني أنّ سدّ مجالات النقاش العامّ، عملاً بقانون الطوارئ السيّئ الصيت، جَعَلَ الجامعَ المجالَ شبهَ الأوحد للتعبير الجماعيّ الاعتراضيّ «المرخَّص» له (قبل خروج المصلّين منه طبعاً). وكلّما ازداد الكبتُ السلطويّ، اتّسع نفوذُ الجامع والطريقة والزاوية. إنّ خيرَ حليف للسلفيّة والأصوليّة، ويا لَلْمفارقة، إنما هو فشلُ السلطة في إرساء دولة لكلّ مواطنيها، أيْ فشلُها في ترسيخ العدالة والديموقراطيّة. تريدون، فعلاً، ألّا تصبحَ حمص أو حماه أو درعا (أو طرابلس) أو ... إمارةً إسلاميّة؟ حُدّوا من الفقر، ومارسوا المساواةَ، واكبحوا الفسادَ، وأكثروا من فرص العمل، وأوقفوا القمعَ والاعتقالَ الاعتباطيّ، وخَلّوا بين الشعبِ وشمسِ الحريّة!
هذا عن السلفيّة في صيغتها السلميّة. أما في صيغتها القتاليّة، فهي أيضاً تتعزّز وتزداد شراسةً كلّما ازداد عنفُ السلطة الحاكمة أينما كانت، في الجزائر أو مصر أو اليمن أو غيرها. لم يكن الحلُّ الأمنيُّ نافعاً مع الأصوليّة الجهاديّة على المدى الطويل؛ فهذه لم تكفِّر السلطةَ والمجتمعَ إلا لأنّ «الجوع كافر، والمرض كافر، والفقر كافر، والذلّ كافر» (زياد الرحباني). ولهذا، فإنّ «الحلّ» الأمنيّ مع السلفيّة القتاليّة، إنْ وُجدتْ أصلاً في سوريا، وبالحجم المعطى لها في الإعلام الرسميّ، لن يُخْمِدَها، بل سيزيدُها استعاراً.
غير أنّ هذا لا يَمْنعنا من السؤال: من أين نَبَتَ السلفيّون في سوريا فجأةً، وبهذه الأعداد، وبهذه الشراسة، على ما لا يكفُّ الإعلامُ الرسميُّ السوريّ عن الترداد؟ لقد صَدَّعَ هذا الإعلامُ رؤوسَنا طوال عقود بأنّ سوريا بَراءٌ من لوثة الطائفيّة والمذهبيّة. فإمّا أنه كان يبالغ في براءة الوطن السوريّ من تلك اللوثة على امتداد تلك العقود وإلى ما قبل اندلاع التمرّد الشعبيّ قبل شهرين، لكي يعزِّزَ الانطباعَ بأنّ النظامَ السوريّ نجح في مقاومة الطائفيّة والمذهبيّة حين فَشِلَ كلُّ الآخرين في المنطقة (مصر، لبنان، العراق،...)؛ وإمّا أنّه يبالغُ اليومَ في قوّةِ هذه اللوثة وانتشارها. وهو في الحالين يُثْبت أنّ «الحلّ» الأمنيّ مع السلفيّة لم يكن ناجعاً.
■ ■ ■
رابعًا، إنّ تحميلَ قناة الجزيرة مسؤوليّةَ «الاضطرابات» في سوريا مهزلة. نعم، على الجزيرة أن تدانَ بشدّة لتغطيتها الهزيلةِ للقمع في البحرين، تواطؤاً منها على ما يبدو مع سياسة قَطَر التي تزداد اقتراباً من المملكة العربيّة السعوديّة. ونعم، على الجزيرة أن تُدانَ لفتحها (هي ودولة قطر) البابَ على مصراعيْه أمام التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ. لكنْ هذا وذاك شيء، ولومُ الجزيرة كأنّها هي التي صنعت الانتفاضةَ (أو «الفتنةَ» السوريّةَ الكبرى) شيءٌ آخر. فلو كانت الجزيرةُ قادرةً على صناعة الأحداث لانتصرت الانتفاضةُ الفلسطينيّة، ولكُسِرَ حصارُ غزّة، ولاجتاحت سياسةُ التطبيع القَطَريّة مع العدوّ مختلفَ البلدان العربيّة. إنّ تحميلَ فضائيّة واحدة (أو دولة صغيرة واحدة) أكثرَ ممّا تَحْتمل استخفافٌ بالمطالب السوريّة الشعبيّة المشروعة التي يتخطّى عمرُها عمرَ الجزيرة (بل يكاد يتخطّى عمرَ إمارة قطر نفسها!). إنها مطالبُ أيّ شعب يتوق إلى كسر احتكار السلطة أو «الحزب القائد» (ما يسمّيه الصديقُ العزيز ياسين الحاج صالح «الأوليغاركيّة المسيطرة»)(1) للقرار السياسيّ ولكلِّ ما في البلاد من ثروات وأجهزةِ إعلام. وبهذا المعنى، فإنّ «الاضطرابات» في سوريا انتفاضةٌ روحيّة، ذاتيّةٌ وجماعيّة، تُعبِّر عن التوْق العميق والمديد بعد 41 عاماً من «العيش» تحت قانون الطوارئ إلى أن يمتلك الفردُ والشعبُ أخيراً القدرةَ على صناعة حاضره بنفسه. وهذا بالطبع، وبالمناسبة، مغاير، قلباً وقالباً، لمنطق الإصلاحات الشكليّة و«الخدمات الشفويّة» التي لا تُسْمن ولا تُغْني من جوع.
■ ■ ■
إنّ سوريا تَطْمحُ فعلاً إلى أن تكون دولةً حرّةً وعادلةً... وأكثرَ من «مُمانِعةٍ». وإنّ سوريا ليست استثناءً في دنيا العرب؛ فالشعبُ العربيّ يدقّ بيدِهِ بابَ الحريّة في كلّ مكان. المهمّ ألّا تتضرّجَ هذه اليدُ بالمزيد من الدماء.
هامش
1 ــ ياسين الحاج صالح، «في بعض أصول الأزمة الوطنيّة السوريّة الراهنة»، موقع الحوار المتمدن، العدد 3346، 24/4/2011.
* رئيس تحرير مجلّة الآداب
*نقلا عن جريدة "الاخبار" 16\5\2011