عفيف دياب
عشرات العائلات والأسر السورية المهجرة من مدينة حمص ومنطقتها تعيش في عرسال والقرى المجاورة لها. لم يجد هؤلاء النازحون قسراً من يوليهم اهتماماً، فكانت اللجان المحلية الأهلية المرجع الوحيد الذي استقبلهم
****
عرسال | غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الأمتار الأربعة. بصيص نور بالكاد يخترق زجاج النافذة المعلقة كرفع عتب في أعلى الجدار. مدفأة الحطب لا تقوى على مواجهة البرد القارس الذي يزحف نحو تفاصيل أجساد 13 شخصاً. هؤلاء لا يفصل بينهم وبين الأرض إلا ما تيسّر من بقايا سجاد و«بسط» و«طراريح»، ألوانها الزاهية تذكّر المقيمين في الغرفة، بمدينتهم حمص ورائحة خريفها الجميل، وهجرتهم القسرية هرباً من سرّ لم يفكوا أحجية رصاصه العبثي.
يزحف الخائفون على أطفالهم من حمص وريفها إلى بلاد شقيقة على مرمى حجر من حاراتهم وقراهم وحقولهم. التحفوا حفنة بارود، وشال لهب، وآثار دم من الوطن، واتجهوا من «حمصهم» جنوباً نحو قرى وبلدات لبنانية تبدأ من مشاريع القاع الزراعية إلى أعالي جرد عرسال وأخواتها، المزارع القريبة والبعيدة. هنا، حيث بقايا غرف وبيوت تهزّها الرياح وتغرقها الأمطار، لكنها عند فقراء الحزن تبقى اكثر أمناً من رصاص مجهول ـــــ معلوم.
يصرّ أبو جمال على حمل طفليه وزوجة لم ير دموعها منذ أن تشاركا مصارعة الحياة، كما يؤكد. يحكي الشاب الحرفي الكثير من القصص عن حمص المدينة والمحافظة في ظلّ الأوضاع الحالية: «ساء الوضع كثيراً، ولم نعد نقدر على البقاء دون طعام وكهرباء ومازوت». إلا أن السبب المباشر لاتخاذ قرار مغادرة المدينة هو الوضع الأمني، كما يقول أبو جمال «لقد ألزمنا بالهروب إلى البقاع، ولا أخفي عليك أنني ترددت كثيراً قبل اتخاذ قرار النزوح». لكن وجود طفلين كان أمراً كافياً لحسم الأمر. يقول: «تركت الغالي والنفيس في حمص من أجل طفليّ، حتى لا يكونا عرضة للموت جوعاً أو صقيعاً، فالأمور الأمنية أصبحت معقدة، والمدينة تحوّلت إلى خطوط تماس نتيجة المواجهات بين جيش النظام والجيش الحرّ».
أكثر من 65 عائلة نازحة من حمص ومنطقتها منتشرة اليوم في عرسال وجردها القاسي، وفي قرى مجاورة هي امتداد لعرسال التي استنفرت لاستقبال المزيد من النازحين، ولو في ظروف غير مناسبة. ففي غرفة من أربعة أمتار، أقام أبو جمال، النازح حديثاً من حمص، مع قريبه أبو علي وأولاده السبعة الذين هربوا من المدينة إثر توتر الوضع الأمني. يقول الأخير إنه غادر مدينته قبل شهرين «وقد أمّن لي أهالي عرسال هذه الغرفة، كما ساعدوني وعائلتي بالمواد الغذائية والثياب والحطب للتدفئة». ويبدو شاكراً لهذه المساعدة، وخصوصاً أنه اكتشف «أن أهالي عرسال فقراء مثلنا يحتاجون إلى من يمد لهم يد المساعدة». يتابع بصوت متهدّج متذكراً اليوم الذي غادر فيه حمص: «يوم خرجنا انتظرت 24 ساعة حتى يتوقف إطلاق الرصاص. استغللت لحظة هدوء وغادرت مع زوجتي وأولادنا، وحين أصبحنا في مكان آمن خارج حمص اتصلت بصديق أمّن لي خروجي إلى الحدود اللبنانية في منطقة القاع، ومن هناك توجهت إلى عرسال، بعدما علمت أن الأهالي يستقبلون النازحين ويؤمنون لهم منازل وطعاماً».
وبالفعل، فإن أهالي عرسال انتظموا في ورشة عمل محلية لتأمين مختلف متطلبات النازحين من سوريا، الذين بدأوا بالتوافد إليها منذ عدة أشهر. توزّع الأهالي مجموعات، لكلّ منها مهمة محددة. واحدة لتأمين منازل لإقامة النازحين، وأخرى لتوفير المواد الغذائية والألبسة والفرش والأغطية، وثالثة، وهي الأهم والأكثر دقة في عملها، مجموعة الطبابة وعلاج الجرحى من النازحين السوريين، وتوفير الأدوية اللازمة. ويقول متابعون لعمل هذه اللجان، إن أهالي عرسال يوفرون متطلبات النازحين من تبرّعات يجمعونها من بعضهم البعض. ويكشف أحد مخاتير البلدة أنهم أجروا اتصالات بمؤسسات رسمية لبنانية وأخرى دولية لتأمين بعض احتياجات النازحين «لكن للأسف لم يردّ أحد علينا، لذا نجمع تبرّعات محلية لتوفير ما يلزم للمهجرين من سوريا». ويوضح المختار أن «السلطات اللبنانية لم تكلّف نفسها عناء السؤال عن هؤلاء، أو حتى كيف يعيشون». ويسأل ساخراً: «ألسنا في وحدة مسار ومصير وشعب واحد في دولتين؟»، لافتاً إلى أنه اتصل «بمؤسسة دولية لتوفير مساعدات ما للنازحين، لكن علمت منهم أن الدولة لا تسمح لهم بالعمل».
هذا التقاعس الرسمي اللبناني عن متابعة شؤون النازحين السوريين إلى لبنان، وعلى الأقل في منطقة البقاع الشمالي، يتحدث عنه أيضاً منسّق «تيار المستقبل» في المنطقة بكر الحجيري، الذي يتابع توجيهات تياره بوحوب تقديم المساعدة الإنسانية إلى السوريين المهجّرين. يقول الحجيري «الحكومة اللبنانية لم تسأل عن هؤلاء النازحين قسراً، لذا فإن التوجيهات العامة في التيار هي مساعدة هؤلاء». ويوضح أن سجل الإحصاءات لدى منسقية تياره في البقاع الشمالي تتحدث عن أكثر من 68 عائلة سورية وصلت إلى المنطقة من حمص وإدلب وكناكر. ويكشف أن تياره أصدر أمراً بوجوب متابعة شؤون الجرحى الذين يصلون إلى المنطقة من سوريا.
معالجة الجرحى السوريين في لبنان هي الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى اللجان التي تتابع الأمر على تخوم الحدود في البقاع الشمالي. يقول طبيب جرّاح التقته «الأخبار» خلال معالجته جريحاً سورياً مصاباً بطلق ناري في ساقه اليسرى، كان قد وصل للتو من منطقة حمص، إنه يعالج الجرحى في المنطقة وفق حالاتهم ونوعية إصاباتهم، موضحاً أن «الحالات الحرجة تنقل فوراً إلى طرابلس وعكار، لتوافر مستشفيات تستقبلهم، خلافاً لمستشفيات في البقاع ترفض هذا الأمر».
ويقدّم الطبيب شرحاً مرعباً ومأساوياً عن كيفية وصول الجرحى، إذ يقول إن الجريح السوري ينقل على دراجة نارية عبر مسالك ومعابر وعرة تجنباً للألغام وشرطة الحدود السورية (الهجانة). ويصف أن عمليات النقل تجري وفق المشهد الآتي: «يقود الدراجة سائقها، وخلفه آخر بركوب معاكس حاملاً الشخص المصاب!». ويتابع «هناك عشرات من المصابين لم تكتب لهم النجاة بسبب تعذّر وصولهم الى لبنان للعلاج، إما عادوا أدراجهم، وإما ماتوا على الحدود متأثرين بجراحهم»، كاشفاً أن الألغام السورية التي زرعت في اكثر من منطقة حدودية «تعوق عمليات إنقاذ المصابين بالرصاص ونقلهم الى لبنان».
كذلك يقدّم الطبيب لائحة بأسماء الجرحى والأمكنة التي تعرّضوا فيها لإطلاق الرصاص داخل سوريا، وموقع الإصابة في الجسم. وتفيد اللائحة التي اطلعت عليها «الأخبار» أن الطبيب وفريق المساعدين معه من ممرضين وصيدلاني، عالجوا 21 جريحاً في اقل من شهرين، وأن معظم المصابين تعرضوا لإطلاق رصاص حي، وأماكن إصاباتهم هي في: العين والصدر والأقدام والبطن والأعضاء التناسلية والرأس وأعلى الظهر، وإصابة واحدة في الفم وأخرى في الرقبة.
****
يروي مهجرو حمص الكثير من الحكايات عن مدينتهم.لا يخفون وجود حرب شوارع بين جيش النظام والجيش الحر. ويقول ابو جمال:" لم نكن نريد اسقاط ، بل فقط كنا نريد محاسبة المحافظالفاسد ». يتابع «شاركت في تظاهرات ضد المحافظ، وحين تعرضنا للرصاص صرنا نطالب بإسقاط النظام »، مؤكداً أنهم «شعب واحد مع الجيش ولسنا ضده" وحدة الشعب والجيش بؤكد عليه السبعينية أم محمد، التي تتخذ من منطقة مشاريع القاع مقر إاقامة مؤقت. السيدة الصلبة رفضت بداية مغادرة مدينتها و «جابوني بالقوة لهون ». تقول إنها كانت عائدة إلى المنزل حاملة فطائر لأولاد ابنها
الذين كانوا بلا طعام على مدى يومين «كان هناك جندي يراقبني وانا امشي وحيدة في الشارع، فتقدمتمنه وقلت له هل تريد ان تأكل؟ . وتضيف «رفض الجندي بداية، قائلاً لي إنه أكل منذ قليل ». تضيف «أصررت عليه أن يأخذ فطيرة فوافق بعدما قلت له أنا مثل أمك ». وتتابع أم محمد «حين أخذ مني العسكري الفطيرة صار يبكي وقال لي: انا واحد منكم». وتختم «الجيش من أبنائنا، ولا يمكن أن نطلق عليه الرصاص".