السبت، 27 أغسطس 2011

لقاء ـ أميمة الخليل

ِلقاء  ـ أميمة الخليل
مداها الأفق وصوتها المدى ..
 يخجل الوتر من عذوبة صوتها فتحتويه وتشدو

حوار يسرى عقيلي
@أعرف أن السؤال عن تجربتك مع مارسيل خليفة أصبح ممّلاً، أو الأصح متعباً. لكن من أدمن الوفاء مكتوب عليه أن يتعب لهذا أسألك:  كنت غيمةً ممطرةً في سماء مارسيل خليفة هل تتوقين لسماء لك وحدك؟
     مع مارسيل أنا أحلّق في سمائه وبحريّة كبيرة وقناعة أكبر. أما منفردةً فالمساحة أكبر هي مساحة حضور صوتي إن على خشبة المسرح أو في التسجيلات، فلا أتقاسم هذه المساحة مع صوت اَخر لأ أكثر ولا أقل. إذن السماء سمائي منفردة أو بصحبة مارسيل العزيز.
@سؤالي السابق فرض نفسه بعدما سمعتك في دار الأوبرا السورية(في ذاكرتي). كنت  تستحقين هذا الحفل الخاص بك لأنّك مع مارسيل كنت صدى أغانيه أمّا بدونه كنت الأغنية بكل أصدائها هكذا أحسسناك أمّا ماذا أحسست أنت فهذا ما أنتظر إجابته ؟
   أنا جزء من مشروع مارسيل خليفة الفني والثقافي وبالتالي لي حضوري معه ضمن رؤية شاملة لهذا المشروع تتمّمه عناصر عدّة ومكونات متنوعة في الأداء، ولكن في حفلاتي المنفردة أقدّم نفسي بالإضافة لرؤية مارسيل نفسه بإطار ومفهوم عملت على إنشائه مع موسيقيين اَخرين منهم هاني سبليني وعبود السعدي وعبدالله المصري وبول سالم، وشعراء اَخرين منهم محمد العبدالله وجرمانوس ونزار الهندي وعبيدو باشا وزاهي وهبي. وبطبيعة الحال الأمر يفرض نفسه في حفلاتي كوني مسؤولة كل المسؤولية عنها وعن صدى  أغنياتي وبكل تفاصيلها. وفي نهاية الأمر أستمتع بعملي إستمتاعاً حقيقياً غير مرفق بالحسابات والمعادلات المرهقة، والتي لا توصل إلى مكانٍ مرجوٍ. هذه أنا وهذه طبيعتي أما كيف يصل إلى المتلقي فهذا يتعلّق بالمتلقي نفسه ولا أدّعي اليقين بما يحسّ هذا المتلقي عندما يشاهد هذا العرض الذي أقدمه ولا أجزم بمعرفتي إلى أين سأصل به.
 @ ألقيتِ عباءة اللحن عنكِ وغنيّتِ في حفلة دمشق أغنيةً عاريةً إلّا من صوتك. أعرف أنّك لست بحاحة إلى إثبات عذوبة صوتك لكن هل أردت أن تثبتي أنّ سكوت  الموسيقى يفضح عورات أصواتهم ويلبس صوتك بهاء المدى الحر ؟
   اللحن هو ما يحملني على الغناء وبحريّة ضمن خطوطه الواضحة. تعبيري أيضاً في غناء اللحن أيضاً حر وواضح في كثافته الحسيّة. هذا التعبير يكون كافياً أحياناً وأحياناً أُخرى أرى أنّه يحتاجها لإكتمالها، وهذا يرتبط بطبيعة اللحن أو المقطوعة بالنسبة لي أفضّل غناء الـAcappela بدون اَلات موسيقية، لا لعرض العضلات أبداً، فبرأيي كل من لديه صوت قوي قادر على الأداء المنفرد إنّما أنا أميل لهذا النوع من التعبير الفني الذي هو أقرب ما يكون إلى طبيعتي. فالهدوء والتعبير الموغل في العمق .. عمق الحس الإنساني البعيد عن بهورة العضلات والقشور هما عنصران أساسيّان في تركيبة هذا النوع من التعبير.
  @الإلتزام موجع وقد كبّرك قبل أوانك. أعرف أنّك لست نادمة لكنّي أعرف أنّه حصرك بالنخبة. هل تأخّرت حتى تداركت ذلك ؟ وهل لوجود هاني سبليني فضلٌ بذلك ؟
   الإلتزام واحد من عدّة مكوّنات لشخصيتي. عندما كنت طفلة ولاحقاً مراهقة تعمل مع فنان جاد وجد فيها ما يكفي من الجديّة ليثق بها و يحمّل صوتها موسيقاه لتشاركه في أدائها بطبيعتي جديّة..لاهية أحياناً لكن في حدود حياتي الخاصة أمّا فيما يخص فني فالموضوع ليس موضوع هزل ولهو إنّه ممتع بجديته والتسلية لها أوقاتها وأمكنتها. وإذا كانت النخبة هي من تقدّس الفن بإحترامه وتحديثه بما يحمل من قيّم إنسانية موّحدة للبشر فليكن. أنا مع  هذه الفكرة عن الفن وكيّفية تقديمه للناس.  هاني يشاركني هذه الرؤية للفن وما حققناه معاً حتى الآن يجيب عن هذا السؤال. فالموسيقى فضاء رحب نريد أن ننهل منه ما إستطعنا لإغناء حياتنا وتجاربنا الموسيقية، وهنا لا نستبعد أيّ نوع من أنواع الموسيقى أو الإيقاعات .. إيقاعات الحياة ولكننا نطوّعها بما يتلاءم مع أفكارنا وتعبيرنا وطريقة عرضنا إيّاها.  بالنهاية الإلتزام غني ومحاولة حقيقية وجادّة لمعرفة كينونة الإنسان الآخر وفهمها واحترامها هذا ما قصدته.
 @ أصبح لكل حزب في لبنان مغنون ولكل طائفة عازفون وما يجمعهم واحدٌ وهو الثورة حتى النصر على بعضهم البعض. أميمة الخليل لمن تغنين ؟ وكيف ستغيّرين ذاك التحزّب حتى في الغناء والموسيقى ؟
  لا أحبّ التعصّب مهما كان ولا حتى بالموسيقى، وليس فقط بالسياسة والأديان. ما أفعله هو التعاطي بهدوء وتفهم لخوف أي إنسان يجهل فكرة أو طريقة إعطاء الآخر فرصة للتعبير عن نفسه، فلا يجد سبيلاً إلّا التعصّب، وبالتالي أغني لكل أنواع البشر الذين يتشابهون أينما وجدوا مع إختلاف حضاراتهم. طبعاً بإستثناء سياسيّ ما يُسمى الدولة اليهودية الذين أعتبرهم من كوكب غير كوكب البشر.  فالقيم الإنسانية خطوطها العريضة(فاقعة الوضوح)أغني لكل من يلتزم في حياته هذه القيم ويتعاطى مع الآخر على اساسها. لست ممن يتوهمون القدرة على التغيير. أنا أعمل وأقدّم نفسي ضمن هذه المفاهيم ،وما تسمعونه أو ترونه عني هو إنعكاس هذا العمل أو هذا المفهوم، وإن كنت قدوة كفنانة هذا شيء يفرحني طبعاً، لكني لا أتحرك بهاجس أن أكون قدوة للغير.
 @ أميمة الخليل هل هناك أمل ؟؟؟
    طبعاً الأمل موجود دائماً طالما أنّ هناك أمهات متنورات يربين أجيالهن على الخير وحب الوطن ورفض الذل. وطالما أنّ هناك مثقفين ينيرون دربنا بالحب والسلام سيظل هناك يوم جديد اَتٍ.

الجمعة، 26 أغسطس 2011

قصيدتكما كل مرة /إلى ضياء وسامر

 

 

قصيدتكما كل مرة /إلى ضياء وسامر

يحفزني ألم في قصيدة
لأسأل :
هل يلتهم الحبُّ قلوب العاشقين
كما العقرب الأم ،
تقدم لحمها وجبةً لصغارها ؟
هل يصبح العاشقون أهدافاً
لقناص ماهر كان عاطلاً عن العمل ؟
هل يحزن الله لأمرهم
أم أنه حين يرفعون رؤوسهم الى السماء
يشير بسبابته إلى اليافطة مذّكراً :
نهاياتُكم لا تُرد ولا تُبدل
وانتظروا ثلاث حيوات لتشفوا !
وها نحن الآن ننتظر ،
نفّرغ احشاء ثلاجة الطعام في احشائنا
ونضغط على أزرار الريموت كونترول
كمن يضغط على الزناد
ونغتسل بمياه حارة كالجحيم
لعلّنا نحترق ..
وها نحن ننتظر في حانة
صديقاً سعيداً يبتسم كأبله
يسألنا مئة مرة ،كيف الحال
فنقسم بأننا لن نرى وجهه ثانيةً
في كل مرة ...
و في المكتب ننتظر
نشوّه الحكمة الهندية
"إعمل كأنك تلعب " 
ونكتب رسالة استقالتنا
كلّ مرة ..
وحين نفتح باب منزل في انتظارنا
في المساء
يغشو عيوننا بياض متسخ
بسبب شجاراتنا كل صباح
ونرغب لو نعود أدراجنا
كلّ مرة ...
وها نحن ننتظر في السرير
نعدُّ "نجوم الظهر" في الليل
ونسأل :
هل سنشفى من الألم
ام أن حيوات ثلاث
مرت ككل مرة دون ان ننتبه؟ 


(هيفاء راضي)











الأربعاء، 24 أغسطس 2011

خمرة اللقاء




              خمرة اللقاء



 أتهجّد بإسمكَ وأستغفرُ صدود الزمن
فأسبّح لإقترابه وأصلي لدنو المسافة
ثم أنوي صيام عمرٍ من ربيع كي تحلّقَ في شتائي.
***
على صدرِ إفتقادكَ..أعانقني
وأبحثُ عن الهدوء في وجنتي صدركَ
أئن تحت خط الغياب منذُ هبوبكَ بي مطلعُ الحب الفائت.
....
أعشاش شموسي ترتوي من ماء نهركَ
والمطر ينحاز لإغتسال حرائقها..
ترى كم قمراً ستمنحني إبتسامتكَ؟؟
كرعشةِ عشقٍ..كنورس في جعبته عشبة الخلود
مبحوحة الإيقاع عند نحيب مإذنةِ الشوق
على تخوم خمرةِ اللقاء أصلي كي نبقى
....
أيها الغافي على قلبي..
كيف إستطعنا أن نخترعَ
حبّاً من التوّ البعيد؟!
يا كلّ حبي وهمسي..
يكتبكَ حرفي ويأخذكَ حيث ولّى.
(يسرى)




الأربعاء، 17 أغسطس 2011

لولا الشعر لماتت الآلهة





                                              لولا الشعر لماتت الآلهة



يا للحزن الذي لا يغادرنا
كـمحطة دائمة..
الحزن لا يستبق مجيئه بتذكرة
ولا يتأخر أبدا..

الحزن الذي يجعلنا جميلين في حياة بشعة
يتركنا ننوء تحت صخرة
ونكتب قصيدة ذابلة
يعلقها على الباب
ويمضي..

الحزن الذي لا يملك أجنحة
يتسلقنا مثل عشب المقبرة
مثل عفن خبز الفقير
مثل دماء الشهداء على ملابس أحبتهم..

الحزن..
الحزن
هو كل ما نهرب منه
وكل ما نقع فيه..

الحزن الذي يكره الفرح فلا نعود نعرفه
حاضرا أم غائبا..
ودائما في المقعد المجاور
الرفيق الذي لا يبادلنا التحية
الرفيق الذي نرمقه بنظرة
نلقيها على غلاف الكتاب الذي يقرأ
ونبتسم لبلاهة ما يقرأ..

الحزن..
يجبرنا أن نكون سكيرين وشعراء..
يا للحزن أن نكون شعراء
يا للحزن الذي لم يغادرنا
فأصبحنا شعراء..


(مريم عبدالله)

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

اللحن المسفوح


اللحن المسفوح
سأحضنكَ كالخيط الأبيض حين يكبح شبقَ المساء..
كاللحن المسفوح على قارعةِ ناي شجي.
كالحياةِ أوقفها فاصل غيابكَ ..ولم تعد تواصل.
كالنهايات الحزينة في أقاصيص الغياب.
(يسرى)

الجمعة، 5 أغسطس 2011

«المراسل الفلاح» لم يخن شرفاء بلاده

عساف أبو رحال: «المراسل الفلاح» لم يخن شرفاء بلاده

عفيف دياب  ـــــــــــــــ
عام مرّ على استشهاد الزميل عساف أبو رحال. عام مرّ، وكلّ استعادة لقصة تحوّل عساف إلى صحافي تؤكد ارتباط هذه المهنة بالناس. ارتباط نسيه الكثيرون في زمن التحوّلات الذي نعيشه. «الأخبار»، التي تفتقده، وتوجه إليه تحية في الذكرى الأولى لاستشهاده، تدعو مع عائلته إلى قدّاس يقام على راحة نفسه عند الساعة العاشرة من صباح غد في بلدته الكفير
*****

لم يكن عساف أبو رحال شخصاً عابراً. لقد ترك أثراً كبيراً في يوميات أسرته ورفاقه ومعارفه الكثر على امتداد مساحة البلاد. كان يفاخر بتاريخه النضالي من زمن جورج حبش في راشيا الفخار والعرقوب، إلى زمن جبهة المقاومة الوطنية وأذرعتها السياسية والتنظيمية والتعبوية واللوجستية، وصولاً إلى العمل الإعلامي منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي في صحافة الحزب الشيوعي اللبناني، ثم عبوره لاحقاً بعد أفول صحافة الحزب في وسائل إعلامية لبنانية وعربية من دون أن يحقق الاستقرار المهني والاقتصادي الذي كان ينشده ويطمح اليه، إلى أن استقر في «الأخبار» حتى لحظة استشهاده. كيف أصبح عساف أبو رحال مراسلاً صحافياً؟ يقول الزميل طوني فرنسيس الذي واكب أبو رحال منذ بداياته في «النداء» وصولاً إلى «المستقبل»، إن عساف نموذج مميّز للمراسل المناطقي.
كان يسميه تودّداً «المراسل الفلاح»، لأن «ارتباطه بالأرض أهم خبر سياسي عنده، بمعنى أن خبراً مثل الموسم كان أهم بالنسبة إليه من خبر حرب كونية». اما عن علاقة عساف بالنداء، فيقول فرنسيس إنها بدأت بوصفه مناضلاً في الحزب الشيوعي، «كان يرى أن من واجبه أن يوصل لجريدة الحزب أخبار منطقته».
مع توقف «النداء» عن الصدور، غاب عساف عن المراسلة لفترة قصيرة قبل أن يستعيد نشاطه مراسلاً لجريدة المستقبل في البقاع الغربي وراشيا. ويقول فرنسيس إنه حين تولى الإشراف على الإعداد لإطلاق الجريدة وتولي مهمة المراسلين: «فكرت فوراً بعساف». وقد برز الأخير فيها وكان مميزاً بين زملائه.
في هذه المرحلة شهدت المنطقة التي يغطيها عساف أحداثاً مهمة، أبرزها تحرير الجنوب عام 2000. وقد نشط عساف في التغطية.. حتى كان يعتبر أن قمة عمله الإعلامي مراسلاً مناطقياً قد تحققت خلال مواكبته عملية التحرير، إذ نفذ تغطية ميدانية على مدار الساعة لعدة وسائل إعلامية لبنانية وبعض محطات التلفزة التي كانت تنهل من معلوماته مجاناً. ويقول فرنسيس إن عساف كان «أبا المراسلين المواكبين لعملية تحرير الجنوب والمعتقلين من سجن الخيام، والتحرير أعطى عساف حقه المهني بعد تعب طويل».
بروز عساف أبو رحال مراسلاً في منطقتي حاصبيا ومرجعيون بعد التحرير، حوّله الى مرجع لعدد من الزملاء في بيروت الذين كانوا يعدّون منزله في الكفير ممرّهم الإلزامي وقاعدة انطلاق لهم نحو إجراء تحقيقات صحافية في المناطق المتاخمة لمزارع شبعا والخط الأزرق، موفراً لهم سبل الراحة والمواد الاخبارية الأساسية لإنجاز تحقيقاتهم وفتح خزانة أرشيفه لهم بكل رحابة صدر، لا سيما أن عمله مراسلاً «أصبح نوعاً من الالتزام المهني بعدما كان مهمة نضالية سياسية».
لم يضع عساف أبو رحال خطوطاً حمراء لعمله. كان ينقل الخبر بأمانة وبوقائعه المطلقة. كان يقول: «أنا رح أبعت الخبر كما هو. هيك صار، ليش بدنا نخبي عن الناس؟». كان وفياً لمبادئه، ولم يخن يوماً طبقته الاجتماعية وفقراء بلاده النائية. أرهقته أشكال تعاطي الأجهزة الأمنية وأنواعها معه خلال عمله في منطقة البقاع الغربي وراشيا. لم يكن يفقه ما يسمى «الرقابة الذاتية» وقد تسبّب له الأمر في بعض المتاعب مع أمنيين وسياسيين كان ينتقدهم من دون حرج أو خجل. وهنا لم يعد جائزاً إخفاء السر حين ضغطت شخصية أمنية على مرجعية سياسية لإزاحة عساف ابو رحال من وسيلة إعلامية لصالح آخر كان مخبراً «شاطراً» عند الأمني غير الوطني. لم يكترث «أبو مازن» لهذا الضغط ولم يعطه قيمة تذكر. تابع عمله مراسلاً في منطقة نائية ووجد في جنوبه المحرّر لاحقاً ما يعطيه الأمان في مهنة وقعت أسرارها بين يديه صدفة. صدفة غيّرت مجرى حياته وحياة عائلته التي تحولت إلى خلية نحل من أجل نصر إعلامي لرجل متعدّد المهن والمواهب قبل أن يسقط بصمت تحت فيء شجرة.
الاخبار ـ 6\8\2011 

الخميس، 4 أغسطس 2011

مطران 14 آذار (لا) يغادر زحلة


أندره حداد: مطران 14 آذار (لا) يغادر زحلة

 
عفيف دياب
ـــــــــــــــــــ
   بعد أكثر من 3 عقود أمضاها في زحلة قابضاً على مفاتيحها وأسرارها السياسية والاجتماعية، وحتى الأمنية، يستعد المطران الأكثر إثارة للجدل وصناعة للعداوات السياسية، أندره حداد (82 عاماً)، لتسليم مفاتيح مطرانية زحلة الكاثوليكية إلى المطران الجديد عصام درويش، الذي يعول عليه في ترتيب البيت السياسي للمدينة
*****
تستعد مدينة زحلة، ومعها لبنان وبعض سوريا، لحدث ديني ـــــ سياسي يوم 13 آب المقبل، يتمثل بالإعلان في حفل رسمي وشعبي عن تعيين المطران عصام درويش «قائداً دينياً» لأبناء الطائفة الكاثوليكية في عاصمة الكثلكة في الشرق. المطران الجديد سيخلف المطران أندره حداد، الذي لن يغادر المدينة بعد ترك قيادة أبرشية مطرانيتها، هو الذي له بصمات كثيرة في الحياة السياسية المحلية.
لا يخفي حداد بين أوساطه دورَه في تسمية خلفه المطران درويش على رأس القيادة الدينية في زحلة «لما يتمتع به من ميزات وقدرات يعول عليها» لترتيب البيت الزحلي الداخلي بعد استفحال الخلافات السياسية بين قواها الحزبية وبيوتاتها السياسية المتنوعة. و«ربما يحقق نجاحات أفضل مني»، يقول المطران، الذي سيغادر بعد تاريخ طويل من المشاكسات السياسية مع عدد كبير من القادة السياسيين والأمنيين اللبنانيين والسوريين، الذين نسج معهم علاقات ودّ حين ساروا وفق رأيه، وعداوات منقطعة النظير عندما خالفوه الرأي، أو لم يلبّوا مطالبه باسم أهل المدينة.
يعرف حداد خبايا زحلة وأسرارها. ويمكن القول إنه أسهم في صناعتها ورسم بعضها، واضعاً مفاتيحها «الخطرة» في جيبه منذ أن وصلها من قرية روم الجنوبية، مهجراً مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية، قبل أن يصبح مطرانها الأول في 19 حزيران 1983. يتمتع الرجل، الجنوبي المولد والبقاعي الهوى، بذاكرة قوية تختزن الكثير من الأسرار. وعلى حد قول زحلاوي صديق حميم لحداد، فإن «مستودعاً من الأسرار في رأس المطران.. لو كشف بعضها لكان قد غير الكثير سياسياً واجتماعياً في المدينة ومنطقتها، مقفلاً بيوتاً، ومُنهياً حياة سياسية لهذا أو ذاك».
«غرام» غازي كنعان
وصل أندره حداد الى كرسي مطرانية زحلة والمدينة تتألم من الحصار العسكري السوري. وضع المطران خطة لإنهاء الحصار بأقل الأضرار السياسية والعسكرية، ما أدى الى نشوب خلافات بينه وبين قادة عسكر الجبهة اللبنانية. نجح خليل الهراوي وإيلي الفرزلي في ترتيب لقاء بين حداد وغازي كنعان (آب 1983) في تمثال السيدة العذراء في أطراف زحلة الجنوبية. تحدث الرجلان لمدة ساعة، وانتهى اللقاء بإطلاق سراح عدد من الموقوفين الزحليين، وبجملة شهيرة قالها كنعان لحداد: «أحببتك أيها المطران. وكرمالك سأخلص زحلة. وأقسم بشرفي العسكري إن أحداً لن يدخل المدينة إلا على جثتي».
نجح حداد وكنعان في وضع ما أصبح يعرف لاحقاً بـ«الحل الزحلي». أقنع المطران القوات اللبنانية وحزب الكتائب بوجوب مغادرة المدينة، وأسهم خليل الهراوي في تنظيم الاتصالات السياسية مع بيار الجميل وكميل شمعون، حيث اقتنع الأخير بوجوب الحل السلمي، قائلاً للهراوي: «نحن لا نقدر على أن نفعل لكم شيئاً. حلوا أزمتكم وتصالحوا مع السوريين». كرس حداد مصالحة زحلة مع سوريا. انسحب عسكر القوات والكتائب وافتتحت الاستخبارات السورية مفرزة أمنية لها في المدينة كان تاريخها أسود. تطورت العلاقة بين حداد وكنعان، وأصبحت الثقة المتبادلة بين الرجلين مفتاح بدء الحوار بالتواصل مع زحلة سياسياً واقتصادياً. فالاتصالات واللقاءات اليومية بين رجل سوريا الأول في لبنان ومطران «عاصمة الكثلكة» في لبنان والشرق، لم ترحم الأخير، الذي اتهم بأنه «العميل السوري الذي يمشي معهم على العمياني». وهنا لا يخفي حداد امتعاضه من هذه التهمة، التي أسهمت في إعاقة عمله داخل زحلة وخارجها، لكن «أعرف أن الزحلاوي لن ينسى أن السوري دمر مدينته وهجره. جربت زحلة الحرب مع السوري وفشلت، لذا لم يكن أمامنا سوى العلاقة مع دمشق. عملنا كان لإنقاذ زحلة، وقد أنقذتُها بحكم علاقتي مع غازي كنعان، وزياراتي لسوريا مع قادة زحليين». يضيف: «كنت مقتنعاً بأن العلاقة الجيدة مع السوريين هي الحل الصحيح. الحل أعطانا السلام، ولاحقاً من اتهمني بالخيانة أصبح ابن العروبة والمدافع الأول عنها».
لا ينكر المطران الجوانب السلبية للسوريين في لبنان، فهو كان يقول لغازي كنعان مباشرة إن تدخلهم السافر في أصغر الأمور وأكبرها ليس صحياً، بل إنه مسيء إلى العلاقة بين البلدين، لكنه لا يخفي في المقابل أن المسيحيين أخطأوا في تعاملهم مع سوريا. «فالموقف السلبي منها أدى الى تراجع دورهم في الدولة ومؤسساتها بعد توقف الحرب الأهلية، واليوم أصبح من كان يقصف سوريا مدافعاً عنها».
انتقام رستم غزالي
العلاقة الودية الطويلة جداً بين مطران زحلة اندره حداد وسوريا انهارت مع مغادرة غازي كنعان لبنان، وتولي العميد رستم غزالي رئاسة جهاز الأمن والاستطلاع. حارب غزالي كل أصدقاء كنعان في لبنان، وأخذ بقص أجنحتهم وتحجيم أدوارهم وتقريب آخرين منه. ساءت العلاقة كثيراً بين حداد وغزالي، جراء اعتراض المطران على حفل غذاء تكريمي لأبي عبدو قائلاً: «يجب تكريم أبو يعرب لا أبو عبدو». تدهورت العلاقة الى أن اغتيل الرئيس رفيق الحريري سنة 2005، ففجر حداد غضبه على أداء رستم غزالي، مرحباً بالانسحاب السوري والخلاص من «الوصاية التي دمرت البلدين».
عارفو المطران اندره حداد لا يخفون تقربه الوثيق من 14 آذار، ويؤكدون أنه وجد في شعارات السيادة والحرية والاستقلال ما يحاكي وجدانه وقناعاته، لذا أخذ موقفاً داعماً لـ14 آذار في انتخابات 2005 و2009 النيابيتين، وانتخابات زحلة البلدية الأخيرة. هذا الانحياز ولّد حرباً ضروساً في زحلة مع الياس سكاف والتيار الوطني الحر، حيث حاربهما المطران بقوة، ولم يوفر جهداً لإسقاطهما في انتخابات 2005 و2009. فحداد كان ينظر إلى الطرفين كخونة، لكونهما تحالفا مع حزب الله «ضد الوجدان المسيحي».
اعتراض حداد على تحالف سكاف وميشال عون مع حزب الله لم ينته حتى مع قرب مغادرته كرسي المطرانية. فهو يتهم الطابور الخامس بالإساءة إلى العلاقة مع الياس سكاف، و«نقل الحكي». سوء الفهم بين الرجلين لا يحجب مقولة حداد الدائمة: «بيتان في زحلة مهمان جداً: بيت المطرانية وبيت سكاف، لكن نقل الحكي أحياناً يوتر العلاقة التي هي اليوم حلوة. هون في حكي قد ما بدك».
جعجع رجل «مهذّب»
«حلاوة» العلاقة اليوم بين حداد وسكاف، وعلقمها مع ميشال عون، ليست كحلاوتها مع سمير جعجع، الذي كاد أن ينهي حياة المطران من خلال تفجير سيدة النجاة لقتل خصمه إيلي حبيقة سنة 1988. يجد حدّاد في جعجع اليوم «السياسي اللبناني الأكثر واقعية من عون»، والرجل «المهذب». فقائد القوات اللبنانية اعتذر من الأخير في خلوة مشتركة قبل سنتين و«11 سنة تحت الأرض غيرت الزلمي». قبل حداد الاعتذار مهدياً «الحكيم» صليباً قائلاً له: «خذ هذا صليب المسيح الحقيقي، وصليبك المشطوب غير حقيقي».
تقرب حداد من القوات اللبنانية على حساب سكاف وعون في زحلة، ترك آثاراً سلبية على علاقاته مع قادة زحلة الآخرين. فالعلاقة السيئة مع آل الهراوي منذ أواخر عهد الرئيس الياس الهراوي لم ينجح الأحباء في ترطيبها اليوم، نتيجة الحرب الخفية بين الهراويين والقوات على زحلة. والعلاقة مع نقولا فتوش لم تكن يوماً على ما يرام، ويفضل حداد «عدم الحكي» عن هذه العلاقة الملتبسة. غطى بعباءته الكتائبيين، طارداً من تحتها كل من يحاول المس بهم. اليوم، يبدو حداد مصراً على إعطاء صك براءة لنواب زحلة الذين لم يكن يقدّر لهم الوصول إلى البرلمان لولا دعمه السياسي والديني.

فرحة سكافية وعونية
يُعَول كثيراً على مطران زحلة الجديد عصام درويش في إعادة ترتيب البيت الداخلي السياسي لزحلة، بعد استفحال العداوات بين قادتها وأحزابها، وحتى مع بعض جيرانها. فدرويش (السوري الجنسية)، الذي فرح أنصار التيار الوطني الحر بتعيينه مطراناً على زحلة لكونهم يعدّونه مناصراً لهم، عَقَد خلوة مع النائب السابق الياس سكاف خلال الأسبوع الماضي ناقشا فيها مختلف القضايا السياسية التي تهم زحلة ومنطقتها، وصولاً الى تنظيم حفل قداس التنصيب، الذي دعي اليه الرؤساء الثلاثة، والنائب ميشال عون، ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون، والنائب ميشال فرعون، إضافة إلى عدد كبير من الشخصيات السياسية الكاثوليكية.


الاخبار - 3\8\2011 

الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

في تلك البلاد


في تلك البلاد

جميلة حسين
ـــــــــــــــــــــــ
 
يصرخ المولود
لا حاجة للزينة
جئت في الربيع
.....
النهر غيّر مجراه
....
الحلم نفسه كل ليلة
في الصباح أقصد جارتي الشيخة
عودي الى قدرك تقول،
وارمي تخيلاتك
فالميت لا يقدّم له الطعام
لا تشترى له الثياب
الموت عميق يا ابنتي
عميق..
لا تغامري في النزول
....
الحرية في منتهى الدم
قلت،
مسكينة جارتي العرّافة........!!!!!

الأحد، 31 يوليو 2011

حدث أن كنّا ..في مثل هذا اليوم

حدث أن كنّا ..في مثل هذا اليوم


إنّه يوم ميلادنا...
إنها السنةُ الأولى بعد الميلاد..
هي المسافة الفاصلة بين الأنا والروح
بين الأنا والأنتَ
كانت مملوءة بكَ حدّ الإنتظار وقياس المسافات
أنثى شغوفةٌ بالعشق وتائهةٌ بعينيّكَ..حتى قبل أن تراك َ
كان الشوق يفيضُ بي وأسوار الذاكرة تحومُ حولي..حتى قبل أن أهمسكَ
أستنجدُ بي فأجدني هناك مصلوبة ً بين مساحات وجودكَ
.....
كنتُ انتظر قدومكَ كوعدٍ مسروقٍ من برق الشتاء
حتى قبل أن أراكَ كنتُ أسمعكَ تمشي بكلّ إتجاهاتي
كأنّكَ تقطفُ وحدتي عشبةً..عشبة
وبعد أن إلتقينا جعلتني سؤالاً لا إجابةَ له إلا أنتَ
....
يا رجلاً يُراقصُ الماء وتُشرقُ من بين أنامله الشمس..إشتقتُ إليكَ حتى قبل أن أراك
ويوم إلتقيتُكَ توضّأ القمر بإبتسامتكَ حين طليّتَ حفيفاً
وسبّحت نجومي وصلّتْ لقمرٍ أنتَ مداه
يومَ إلتقيتكَ رأيتُ الله على سطحِ إبتسامتكَ ينثرُ عشقي 
المطرّز بحنطةِ الغواية
...
يا أنتَ لا ترحل..هناكَ سموات لم نمتطيها بعد
وذنوب مُسبقة المغفرة لم نرتكبها بعد
يا كلي وبعضي تَتَزمّل اللحظات بستائر الله في حضرةِ قدسكَ
تخضَرُّ صحراء القلوب بمشاتل نبضكَ الغاصن في ياسمين روحي
يخلقُ عشقكَ في اَنٍ فردوسكَ وفراديسي
وتمتهن قلوبنا ممارسة الحياة حتى على غصن البعاد الكسير...يأ نتَ...عيناكَ   فهرسٌ  يفسّر  فراغي
(يسرى)

3 أيام في "جنهم" الأمن الجنائي

3 أيام في "جنهم" الأمن الجنائي

  في 11 تموز2011 اعتقل الامن السوري عددا من المثقفين اثناء قيامهم بمظاهرة بمنطقة الميدان في دمشق، كان من بينهم الزميل إياد شربجي، رئيس تحرير مجلة "شباب لك"، بعد خروجه من السجن كتب شربجي تفاصيل ما تعرض له..
تقديم:
لعلكم تابعتم عبر الانترنت ووسائل الإعلام المختلفة تداعيات مظاهرة المثقفين السوريين التي خرجت يوم الأربعاء 13 تموز (2011)  في منطقة الميدان بدمشق، ولأجل الحقيقة، ولأن المشاهد شاهد، كان لا بد توثيق ما حدث معنا خلال وبعد ذلك اليوم المشهود الذي أثار الكثير من التداعيات التي صبّت في النهاية في صالح الانتفاضة السورية، ولتطّلعوا عن قرب على سلوك هذا النظام ضد شعبه بمختلف أطيافه وتنوعاته، حتى يتبيّن من في عقله بعض من شك حقيقة ما يحدث في البلاد.
كان من المستحيل علينا – كمثقفين- أن نبقى مجرد مراقبين لما يحدث في الشارع من تنكيل وإذلال بحق الشعب السوري المنتفض لاستعادة حريته المسلوبة على مدى أربعة عقود متواصلة، المشهد المصبوغ بدماء الأطفال والشباب والنساء كان وما يزال قاسياً جداً، وقد حانت اللحظة التي بتنا نعتبر فيها دموعنا التي نذرف مجرد تبرير فاشل لعجزنا عن النزول لدعم انتفاضة شعبنا الحر.
كنت في كل يوم أرى السخط والألم في وجوه كثير من زملائي من كتاب وممثلين وصحفيين، الشعور الضياع والعجز كان هو السائد، الكل لديه الرغبة بفعل شيء لكنه لا يدري ما هو ، وكيف هو…بعضهم فضّل الاستمرار بالتعبير عن رأيه على الفيسبوك سواء بالتلميح أو التصريح، آخرون استسلموا لحزنهم وقهرهم ثم أشهروا استسلامهم فأغلقوا الأبواب على أنفسهم وعائلاتهم وقاطعوا الأخبار وانسحبوا، لكن ثمة منهم من قرر التحرّك فاندسّ في المظاهرات التي تخرج أيام الجمعة من المساجد، أسامة غنم كان الحالة البارزة مؤخراً، لكنني كنت أعرف الكثيرين من زملائي ومن مختلف الاهتمامات والطوائف ممن فعلوا ذلك، وحتى منذ بداية الثورة عندما كانت كالولد اليتيم…خرجوا وهتفوا، وركضوا وهربوا، وبعضهم أكل (اللي فيه النصيب)، ولمن لا يعرف فقد حان الوقت لنقول أن أكثر من 40 من خيرة الكتاب والصحفيين السوريين خرجوا في مظاهرة الأسبوع الأول للثورة السورية في الجامع الأموي بدمشق، وكنت سأذكر لكم أسماءهم لولا أنني أعلم حجم الضغط الرهيب الذي من الممكن أن يتعرضوا له، ولعلكم سمعتم ببعض ما جرى مع من وقعّوا على ما سمي بـ "بيان الحليب"  لكن الذي لم تسمعون به أن كثيراً ممن وقّعوا عليه هددوا بأغلى ما يملكون لو لم يتراجعوا ويعلنوا التوبة على الشاشات، وسيأتي يوم وتعرفون حقائق مرعبة حول هذه الحادثة بالتحديد التي وصلت إلى حدّ التهديد بتصفية بعض الفنانين.
 البداية:
تداعينا نحن مجموعة من المثقفين والفنانين والصحفيين للمشاركة بالمظاهرة التي أعلنت عبر صفحة "مثقفون لأجل سورية" والتي كان من المقرر خروجها في تمام الساعة السادسة من يوم الأربعاء 13 تموز الجاري، وقد كان نصّ إعلان هذه المظاهرة قوياً وذكياً جداً لجهة اختيار الزمان والمكان، بالإضافة إلى أن فيه نبرة تحدٍ كانت تكفي لأن تطيح بخوف البعض، وقد لاحظت أنه رغم قصر مدة الإعلان الذي ظهر قبل يومين فقط من التظاهرة إلا أن معظم الوسط الثقافي كان يتداوله باهتمام شديد، وخرج كثيرون ليعلنوا على الملأ مشاركتهم فيها رغم كل التحدّيات، وتبنّت الحدث تنسيقيات دمشق وريفها وروّجت للمشاركة به، كذلك بدأ الإعلام العالمي بالاهتمام به ونشرت العديد من الصحف ومواقع الانترنت الخبر، وقد تحدّثت معي إذاعة "مونتي كارلو" بشأنها قبل يوم من خروجها، وكذلك عدد من الفضائيات في صبيحة اليوم التالي، كل ذلك منح الحدث زخماً كبيراً، خصوصاً مع تأكيدات العديد من الفنانين والكتاب مشاركتهم بالتظاهرة التي كان الجميع ينتظرها طوال الأشهر السابقة.
في حوالي الساعة الخامسة والنصف من ذلك اليوم، استقلّيت برفقة أولاد حماي الممثلان التوأم " محمد وأحمد ملص" السيارة في طريقنا إلى جامع الحسن بمنطقة الميدان بدمشق، سلكنا الطريق الواصل من ساحة باب مصلى حيث يقبع فرع الأمن الجنائي الذي عدنا إليه معتقلين لاحقاً، وكنت في هذه الأثناء أتواصل مع بعض الأصدقاء المشاركين لتحديد مكان ملاقاتنا، في الطريق إلى الجامع كنّا نلاحظ التواجد الأمني يزداد كثافة كلما اقتربنا، لكن حجم هذا التواجد تبّدا واضحاً حين وصلنا تحت جسر الميدان، المئات منهم كانوا بانتظارنا، بالإضافة إلى أعداد غفيرة من البلطجية الذين يحملون العصي والهراوات والذين افترشوا الرصيف تحت الجسر وهم يلوّحون بهراواتهم بتوتر، اقتربنا حتى وصلنا إلى أمام جامع الحسن حوالي الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، نزلنا إلى هناك، كان في الانتظار كل من الممثلة مي سكاف، والكاتبتان ريم فليحان ويم مشهدي، والمخرج السينمائي نضال حسن، والمصور فادي الحسين، والمصور الصحفي مظفر سلمان، والسينمائية ساشا أيوب، والمخرج الفني فادي زيدان، والحقوقية مجدولين حسن، والناشطة دانا بقدونس، والناشط وطبيب الأسنان بلند حمزة، والفنانة غيفارا نمر، والإعلامي مهند منصور، والناشطتان سارا الطويل ونور بوتاري، بالإضافة لي والتوأم ملص، كنا بالضبط 9 فتيات و10 شبان، ولم نكد ننتهي من تبادل السلام والتحية حتى تدافع إلينا من بعيد عدد من الضباط برتب عالية بينها عميدان وثلاثة عقداء، وخلفهم جموع من رجال حفظ النظام، ورجال الأمن المدرّعين، وحوالي 20 من الشبيحة ، لكننا لم نهرب كما كانوا يتوقّعون، بل لم نبرح مكاننا وتجمعنا وارتصصنا إلى جانب بعضنا بعضاً، وفي وجه كل منّا اشتعلت ثقة غريبة لم نكن نتوقعها حتى نحن، فاقتربوا مناً أكثر وأكثر وتحلّقوا حولنا كحبل مشنقة.
تقدم الضباط وسألونا من يمثّل المجموعة؟، تقدمت أنا ولحقني جميع زملائي دعماً لي، وقلت لهم بلهجة واضحة: "لا أحد يمثّل أحداً، كلّ يمثل نفسه" بدؤوا ينظرون إلينا بنظرة تحدٍّ، لم نأبه، طلب منا الضابط أن نتفرّق ونذهب فوراً لأننا لا نملك ترخيصاً بالمظاهرة، وقبل أن نجيب اندفع أحد الشبيحة وكان يلبس بنطالاً مموهاً وكنزة مطبوع عليها خريطة سورية تتوسطها صورة للرئيس وقال لنا بلهجة متحدّية مستفزّة: "جايين تخربوا البلد انت وياه" فأجبته: "جايين نعبّر عن موقفنا"، فردّ مباشرة: "وليش جايين قدام جامع الحسن… لإنن كلهن مجرمين…؟ أنا انضربت هون الأسبوع الماضي من الكلاب اللي طلعوا من الجامع" فأجبته بكل بساطة: "يعني واضح حضرتك ما بتصلّي فيك تقللي ليش إجيت عالجامع الأسبوع الماضي؟"
عندما قلت ذلك ارتعد الرجل وبدأ الشرر يتطاير من عينيه وتأهّب للانقضاض، كل ذلك حدث وسط صمت مريب ومباركة واضحة من الضباط، عندها اندفع فادي زيدان وساشا أيوب ويم مشهدي وقالوا للضباط،: "بصفتو شو عم يحكي معنا هاد؟"
فقال أحد الضباط للشبيح مشيراً بيده بالرجوع فرجع للخلف وذهب، لكن شبيحاً أخر تقدّم وهو يقول  بلهجة متحدّية لمي سكاف ومشيراً لها بإشارة بذيئة جداً: "وقعتي على بيان الحليب مهيكي…بدك حليب…أعطيكي حليب؟؟" فتعالى صوته هو ومي سكاف الذي صارت تصرخ فيه "احترم حالك…نحنا سوريين متلنا متلك"، فيجيبها: "انتو سوريين يللي عمتحكوا عن جيشنا البطل اللي عمينقتل من هالعرصات" وبدأنا جميعاً نصرخ مستنكرين، عندها تدخل أحد الضباط وأشار إليه بالصمت فصمت.
تابعنا الحديث مع الضباط، قلنا لهم إن المظاهرة لم تبدأ بعد، وأننا أتينا لنعبّر عن موقفنا بكل سلمية، وأن أشكالنا وهيئاتنا لا تدلّ على أننا سلفيون، فاغتاظ أحد الضباط وقال مهدداً بالحرف الواحد: "بتروحوا على رجليكن ولاّ منشوف شغلنا معكن…وانتو بتعرفوا شغلنا كيف؟"، فقلت للضابط: "ممكن لنعرف نحكي معك تبعّد هدلول اللي عميلوحولنا بالعصي قدامنا كإنهن حاملين قتّالة دبّان وجايين بدهن يقتلونا؟" فتوسعت عيناه دهشة وردّ بعصبية: "عمتقول قتّالة دبّان…عمتقول قتّالة دبان؟!!" (لم أعرف حتى اللحظة لماذا استفزّه هذه الكلمة رغم أنها تسيء إلينا لا لهم) فأجبته بسرعة: "شكلك يا سيادة العقيد واضح بدك تفتعل مشكلة"، ولم أكد أكمل جملتي حتى عاد الشبيح الأول ومعه العشرات من أمثاله وكان بينهم فتيات أشباه رجال وكنّ بشعات ومفتولات العضلات، وكان الجميع يلبسون نفس لباس زعيمهم، والتصقوا بنا وبدؤوا يهتفون بتحدّي "الله سورية بشار وبس" نظرنا في وجوه الضباط فلم نرَ فيها أية معالم تدلّ على أنهم يرفضون ما يحصل، فالتفتّ إلى زملائي ومباشرة انطلقنا نهتف بأعلى صوتنا "الله سورية حرية وبس" وكأنها كانت صافرة الهجوم، وفجأة بدأ الهرج والمرج واندفع إلينا عناصر الأمن بكل عنف وهمجية وبدؤوا يقبضون علينا والضباط يصرخون " هاتوا الباص…هاتو الباص" التمّ على كل منّا أكثر من 5 أشخاص وسحبوني لي أولاً ثم محمد ملص ثم أحمد ملص ثم البقية وجرّونا تحت جسر الميدان باتجاه الباص، أحد الذين مسكوني قال لي وهو يكزّ على ساعدي بعنف "بدك حرّية؟…هلأ مندوقك طعم الحرية بضيافتنا " قلت له: "بدي الحرية إلي وإلك" فردّ بغضب:"كول خرة"وهمّ ليضربني لولا أن أتى من الخلف عنصر آخر وهو يصرخ "قال العميد لا حدا يضربهن هون" فخفض يده مغتاظاً وتابع جرّي بعنف مع ثلاثة آخرين، في هذه الأثناء سمعت محمد ملص يصرخ من الخلف "الله أكبر…يا أهل الميدان… يا أهل الأشمر" فقام من يمسكوه بشدّ الشال الذي يلبسه على رقبته وكادوا يخنقونه، وقد رأيت بياض عيني محمد وهو يحاول عبثاً تنشّق بعض الهواء، وكاد يسقط أرضاً قبل أن يحلّوا الشال عن رقبته أخيراً….كان الهرج والمرج والصراخ يعمّ المكان، ومع وجود جسر الميدان فوقنا كانت الأصوات ترتدّ لتبدو مهيبة، رغم هذا الجو المهيب فقد كنت أراقب كل شيء لأنني أعلم مسبقاً أنني سأخرج لأكتبه، قررت التصرّف كصحفي يجب أن يكون دقيق الملاحظة، نظرت إلى البنايات المطلّة على الشارع فوجدت الجميع على الشرفات ينظر إلينا بأسف واضح، وثمة امرأة في العقد الخامس من عمرها تلبس ثوب الصلاة كانت تضع يدها على فمها رعباً وباليد الأخرى كانت تضرب بعنف شديد على حديد البرندة أمامها، صدقوني رغم ما بي فقد خفت أن تكسر يدها لأنها كانت تضرب بعنف شديد دون أن تشعر.
في هذه الأثناء جاء الباص من بعيد وتوقف بعنف في عرض الشارع الذي كان شرطي المرور قد قطع السير فيه، وبدؤوا بدسّنا في الباص وهم يشتمون " بدكن حرية يا ولاد الشر….؟"، في هذه الأثناء يقذفون بأحمد ملص وكان رأسه ينبع بالدماء التي ملأت وجهه، وكانت ثيابه ممزقة، وأجلسونا فوق بعضنا كعلبة سردين، باص مخصص لـ 12 شخصاً جلوساً وضعوا فيه حوالي العشرين، علماً أن هذه المساحة الضيقة كانت مقسومة بساتر حديدي على شكل زنزانة داخلية.
 بالنسبة لمي سكاف كانت الوحيدة التي لم يقبضوا عليها، ربما لأنها فنانة ووجهها معروف، لكن مي كانت تركض وراءنا وتصرخ على عناصر الأمن "لك وين آخدينن…وين آخدينن…يخرب بيتكن هدلول سوريين…هدلول سوريين" إلى أن وصلت إلى الباص ودخلت عن طيب خاطر وصعدت وهي تنظر إلينا برعب إلينا كأم، هذا ما أستطيع أن أصف به وجهها حقاً، كان أحمد ملص ينزف بشدّة الكل أخذ يناوله المناديل، لكن الدكتور بلند اهتم به بشكل خاص ووضع المنديل على رأسه وضغط عليه طوال الطريق.
أغلقوا الباب الحديد علينا وانطلق الباص، بدأنا ننظر إلى بعضنا وكل منا يطمئن على الآخر، لم يكن أحدنا يشعر بأدنى خوف، كنّا قلباً واحداً وقد أزعجهم هذا كثيراً، في هذه الأثناء أحنيت رأسي تحت المقعد واتصلت بزوجتي علا ملص وأخبرتها بالتفاصيل أولاً بأول، رغم أنهم قالوا لنا مهددين أن أغلقوا الموبايلات، وكانوا يريدون سحبها منّا لولا أن المكان مزدحم جداً.
الناشطة مجدولين وهي محامية أخذت تصرخ: "بأي حق آخدينا….هاد انتهاك للقانون.؟"، فيجيبها ضابط برتبة رائد: " ما تحكي عالقانون وانتو خرقتوا القانون؟" فتردّ عليه مجدولين: "هلأ هدلول اللي كانو عميهتفوا بشار معهن ترخيص..، على مين عمتضحك؟؟" فقال لها أحدهم: اخرسي، فردّت عليه : "ما بسمحلك…احترم حالك" فصمت فعلاً، كنّا كلّنا مغتاظون، نظرنا لبعضنا وبدأنا بالإنشاد "حماة الديار عليكم سلام…أبت أن تذلّ النفوس الكرام" ولأنهم لا يستطيعون قول "اخرسوا" على إنشاد النشيد الوطني صاروا يصرخون: "خلص اسكتوا….اسكتوا حنوصل"، لكننا لم نسكت وأكملنا النشيد، ثم بدأنا نتحدّث عن البقية الذين كانوا سيأتون إن كانوا سيخرجون بالمظاهرة أو أنها انتهت على هذه الحال وكفى ، هذا ما كان يقلقنا فعلاً…أن لا تخرج المظاهرة.
بعد قليل وصلنا إلى فرع الأمن الجنائي بباب مصلىّ بدمشق، حيث كانت البنادق الروسية تطلّ من كل مكان، وكأنها تنتظر عدواً كاسراً يريد الهجوم عليها……سأتوقّف هنا اليوم

يمكنكم مشاهدة فيديو الاعتقال وإصابة أحمد ملص على الرابط:
حدثت في الجزء الأول عن ظروف اعتقالنا حتى وصولنا لباب فرع الأمن الجنائي بدمشق، وفاتني أن أذكر لكم أننا كنا قد قررنا أن نرفع الأقلام في مظاهرتنا انسجاماً مع صفتنا التي خرجنا بها كمثقفين، وعندما أعلنّا عن ذلك على صفحة "مثقفون لأجل سورية" ظهرت صفحة أخرى على الانترنت تدعو لمظاهرة مؤيدة قبلنا بنصف ساعة تدعو لحمل الدفاتر وذلك سخرية بأقلامنا، وقد قالوا في  دعوتهم تلك "إذا ما رضيوا يكتبوا على دفاترنا رح ندحشلهن أقلامهن بطـ….." وبالفعل كانت سبقتنا هذه المظاهرة بربع ساعة لكنها التأمت في مكان آخر في الميدان ولم نصادفها نحن، لذا اقتضى التنويه.
في فرع الأمن الجنائي:
وصل الباص الذي يقلّنا إلى فرع الأمن الجنائي بمنطقة باب مصلى بدمشق حوالي الساعة السادسة إلاً عشر دقائق، بمعنى أننا اعتقلنا فعلياً وصرنا في الاحتجاز حتى قبل انطلاق التظاهرة المزمعة بعشر دقائق.
أنزلونا واحداً واحداً على شكل طابور وسط عشرات البنادق الروسية التي تحيط بنا، والنظرات الحاقدة التي كانت تلاحق كلاً منا، دخلنا من باب الفرع وأوقفونا إلى الجدار عند المدخل وكان الجميع ينظر إلينا كمجرمين، طبعاً هكذا سيكون الحال في فرع الأمن الجنائي المعدّ أصلاً لاستقبال المجرمين وأصحاب السوابق والدعارة والمخدرات وغيرها.
 تقدم أحدهم من أحمد ملص الذي غطى الدم وجهه وتفحّص رأسه وأعطاه منديلاً ورقياً، رفض أحمد أخذ المنديل وقال له بلهجة لئيمة: "يسلموا ايديك…ما بدنا منكن شي" لكن هذا العنصر كان مهذباً وتقبل الأمر مبتسماً، وأصرّ إلا أن يأخذ أحمد إلى الحمامات ليغسل دماءه وهذا ما حصل، في المكان ثمة عناصر كانوا ينظرون إلى مي سكاف ويتهامسون، باختصار (صرنا فرجة) أمام كل من في فرع الأمن الجنائي. بعد قليل تقدّم منا ضابط برتبة رائد، عرفنا لاحقاً أن اسمه "أمين هواش" وهو من دير الزور(احترامي لكل أهالي دير الزور لكنني أصف واقع الحال فحسب)، كان يتحدّث بعنجهية وأنفة كبيرة وينظر إلينا بازدراء شديد، وطلب أن ينفصل الفتيات عن الشباب ففعلنا، تفحّصنا واحداً واحداً، سأل يم مشهدي عن اسمها فأجابته، ثم قال لها: "شو بتشتغلي؟" ردت: "كاتبة سيناريو" فرد عليها بغباء شديد: "شو يعني؟" قالت: "بكتب مسلسلات" قال: "وبتمثلي فيها يعني؟" فتنهّدت وقال "لأ…أنا بكتب القصة يللي بيمثلوها الممثلين" قال "تبع التلفزيون يعني؟" قالت:"إي"، ثم عاد إلى الخلف… نظر الينا جميعاً وقال: "مين زعيمكن؟" فقلت له أنا: "ما عنا زعيم…كلنا متل بعضنا" لم أكن أدري ماذا ستجني علي هذه الكلمة لاحقاً، أشار لي بإصبعه وقال" تعا لهون لشوف" تقدمت فقال لي: "مين انت؟" فرددت عليه مباشرة : "أنا مواطن سوري" وإذ بوجهه ينتفخ وعيناه تجحظان، ثم مدّ يده وسحبني من قبة كنزتي بعنف، فتقدمت مي سكاف من خلفي وأرجعوها لمكانها، ثم جرّني الرائد أمام الجميع إلى الغرفة التي تقع مباشرة خلف باب الفرع(غرفة بعرض حوالي 3 أمتار وعمق 8 تقريباً) ولحق به بعض العناصر وأغلقوا الباب خلفهم، وقال وهو يرمي الدفتر من يده على الكرسي استعداداً للهجوم "يعني إنت العرص تبع هالشراميط" فقلت له: "لوسمحت نحنا كلنا ناس مثقفين ومتعلمين ما بسمحلك تحكي معنا بهالطريقة" وبالكاد أكملت جملتني وإذ بلطمة قوية تصفق خدي حتى أن النظر غاب عني لثوان، فصرخت بأعلى صوتي ورجعت إلى الخلف وأنا أضع يدي على خدي فاتحاً فمي بدهشة، وقلت له "عم تضرب!!"، حدثت بلبلة وهمهمة في الخارج على صوت صرختي وعلمت لاحقاً أن ساشا أيوب ركضت نحو باب الغرفة فنالت لكمة على وجهها هي الأخرى.
أخرج الرائد "أمين هواش" رأسه من باب الغرفة وقال لمن في الخارج "مافي شي مافي شي عميعيط لحالو" ثم أغلق باب الغرفة ورجع إليّ والشرر يتطاير من عينه وشهر أصبعه بوجهي مهدداً بصرامة "إذا بسمع صوتك أقسم بالله بقبرك هون يا منـ…."، كان وجهه مرعباً، جانب شفته اليميني التصق بعينه فظهرت أسنانه الوسخة التي تشبه سياج المنازل الصدأ، ومع إشارات مهددة من يديه لم أرها من أيام شغب طلاب المدارس صار هذا الرائد أشبه بالوحش، فعلاً كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها وجهاً فيه كل هذا التفاصيل الحاقدة، ثم اقترب مني، وبدون سابق إنذار بدأ ينهال على وجهي وبطني لطماً ورفساً وأخذ يلكمني على رأسي، وكان يشتم طوال الوقت وهو يضرب " يا بن الشر…..، راسك والثقافة تبعكن بحطهن تحت صرمايتي يا ابن العر……، أنا هون ما عندي هالأكل خرى تبعكن، حقكن صرماية على راسكن وراس وراس أهاليكن يا ولادين الشرا……، أنا بدوي وما أفهم حقكن نص فرنك عندي" كانت الامر صادماً جداً لي، فمنذ 25 عاماً لم يصفعني أحد على وجهي، لا أدري لماذا صمتّ في هذه اللحظات، كان يصفقني ويصفعني ويلكمي وأنا أنظر إليه وعيناي مدهوشتان دون أن أتلفّظ بحرف، حتى اللحظة لا أعرف كيف جبنت وسكتُّ وأنا الذي تعوّدت المواجهة دائماً، لن أنسى تلك اللحظات ما حييت، ولن أنسى أنها أطاحت ببقية خوفي للأبد، رغم ذلك فقد كان الأمر صادماً جداً لثقافتي وأخلاقي وكل شيء، لحظتها طار كل شيء من دماغي، لم أكن أشعر سوى بالألم على رجولتي، وكيف يطيح بها أخ سوري لي بهذه الطريقة، هذه اللحظات ستبقى تحفر مكاناً لها في وجداني حتى أموت.
عندما انتهى الرائد من ضربي فكرت بالرد أخيراً، لكن شيئاً ما أخرسني، كنت خائفاً جداً ومذعوراً على مصير الفتيات اللاتي معي، وكنت أقول في نفسي "إذا على باب الفرع بلشوا معنا بهالطريقة….شو رح يعملوا بالبنات تحت..!!" وتداعت إلى دماغي ما كنت أسمعه عن قصص الاغتصاب والاعتداء على الفتيات في السجون، هذا ما كان يأسرني، فشعرت برعب جديد، وأنني أنا من ورّطت من معي بهذه البهدلة، فصمتّ كي لا أجعلهم يفقدون بقية عقلهم إن كان تبقى لديهم منه.
جلس الضابط خلف مكتبة وقال لأحد العناصر "نبشوه لهالكلب" تقدم مني العنصر الذي لن أنسى أبداً رائحة فمه التي تشبه رائحة كيس الزبالة العفن، وبدأ بتفتيشي بطريقة عنيفة جداً، وعندما وصل إلى جيوب (البدريسة) التي كنت ألبسها وجد قلماً، فسحبه وصفعني على وجهي بقوة، وقال لي: "شو هاد يا خرة"  كانت كرامتي تزأر لكن الشلل أصاب لساني في هذه اللحظة، تابع تفتيشي وإخراج الأغراض من جيوبي إلى أن قال له الضابط: "حاجتو" وقبل أن يتركني العنصر ودّعني بصفعة أخرى على وجهي ورجع إلى الخلف، أشار لي الضابط بإصبعه لآتي وأقترب إلى طاولة مكتبه فلم أردّ في البداية، فوقف وصرخ "قرّب يا أمريكي يا كلب" نعم…قال لي أمريكي..!!!، تقدمت منه، فقال  وهو يضرب يده على الطاولة: "شو اسمك" قلت له: "اياد شربجي" قال: "شو بتشتغل يا خرة؟" نظرت إليه بطرف عيني وقلت له "صحفي" فردّ "وين" قلت: "أنا رئيس تحرير مجلة" قال: "مجلة..شو اسمها؟" قلت: "شبابلك" فرد علي "شو..؟؟" أعدت عليه اسم المجلة أكثر من 4 مرات حتى لفظها بشكل صحيح، ثم قال لي: "ومرخّصة؟" قلت: "اي مرخصة" قال "يعني نظامية..!!" قلت: "مرخصة ونظامية" ثم قال ساخراً "وشو هيّ…عن شو بتحكي؟" اعتقدت للحظة هنا أن معاملته ستتغير بالتأكيد بعد أن عرف صفتي، قلت له: "تتحدث عن قضايا الشباب ومشاكلهن وعن الثقافة وهيك" وإذ به يشهر إشارته التهديدية المعهودة(ضمّ السبابة للابهام وإشهار الأصابع الثلاثة الباقية)، ثم قال بلهجة مهددة "شوف ولا خرة…تكون صحفي تكون طيزي بتقعد بأدبك وبتخرس أحسن ما حطك تحت القندرة وإمعس راسك…فهمت ولا حيوان" فقلت له "أنا مالي حيوان" فانتصب واقفاً كالنابض وأشار للعناصر وقال لهم والبزاق يتطاير من فمه "عم ترد بعد..!! نزلوه لتحت لهالكلب خليه يعرف لوين جاية" فجاء اثنان من العناصر وامسكا بي من تحت ابطي وجرّاني، وكان إظفر خنصر أحدهم الطويل المقرف مغروزاً في ساعدي، وعندما وصلا بي إلى الباب قال لهما الرائد: "انتظروا شوي…وقفوه عندك" فأوقفوني خلف الباب، ثم قال لعنصر آخر: "هاتولي هي الفنانة شو اسمها..!!" يجيب أحدهم "مي سكاف سيدي" قال: "هاتوها لهون لشوف" نادوا على مي سكاف فدخلت، دخلت  وعيناها معلقتان بي تستفسران عما حصل معي، ولم تلتفت للضابط إلى أن ناداها، وخلال حديثها اللاحق معه كانت مي تلتفت بين الفينة والأخرى لتنظر إلي.
 قال لها الضابط "انتي ممثلة ما هيك؟" ردت: "نعم" قال "وليش طلعتوا بالمظاهرة؟" قالت مي وهي تظنّ نفسها تتحدّث مع آدمي: "بالنسبة إلي طلعت لعبّر عني رأيي انو ما بدي ابني يشوف نفس الرئيس اللي أنا شفتو" فخبط الرائد يده على الطاولة بعنف وقال "يعني انتي ضد السيد الرئيس..؟؟!!" عندها أدركت مي جسارة الموقف وجديته، فأجابت "أنا مشكلتي مو مع الرئيس كشخص" قال: "لكان شو؟" قالت "أنا بدي ابني هو اللي ينتخب رئيسه" فقال لها شاتماً وكاتماً غيظه: "هلأ بلا أكل خرا…ليش ما أخدتو ترخيص للمظاهرة!!" لا ترد مي، يتابع الضابط "يعني خدو ترخيص وتعوا تظاهروا ضدي ما عندي مشكلة" مي صمتت أيضاً، فكيف تستطيع فعلاً محاورة هكذا شخص..!!، يرن اللاسلكي، يرفع الضابط الجهاز ويتحدث بلهجة رصينة"إي سيدي.. صاروا عندي…19 سيدي…حاضر سيدي…حاضر سيدي"، في هذه الأثناء نظرت إلى شاشة التلفزيون، فرأيت الخبر الهام على شريط الإخبارية السورية "بعض الشباب يتجمّعون في الميدان بدمشق، وأهالي المنطقة يتفرّجون عليهم" هكذا كان الخبر بالضبط، نظرت إلى مي، وبدون أن نتكلم شعرنا ببعض القوة لأننا أحسسنا أن شيئاً ما حدث بغيابنا، فنحن نعرف مسبقاً أن الإعلام السوري عندما يريد أن ينفي شيئاً فهو يؤكّده فعلياً.
النزول إلى الأقبية:
بعد قليل يقف الضابط، ويقول لعناصره: "خدوهن لبرّة"، فيأخذوننا حيث يقف أصدقاؤنا في الخارج، كانت هذه من أقسى لحظات الإحراج في حياتي، فكيف لي وأنا الذي أتنطّع للمواجهة دائماً أن أبرر ما حصل بي دون أن أردّ، كان الجميع ينظرون إلي بأسف شديد، حاولت أن أهرب بوجهي من نظراتهم، وأن أكبت دموعي التي تغرغر في عيني وأنا أشعر بخليط غريب من المشاعر(القهر، الغضب، الأسف، الألم، الخوف…كل شيء) لكن ساشا أيوب وجيفارا نمر أصرتا على رؤية عيني، قاومت كثيراً، لكن في لحظة ما هربت دمعتان شعرت بسخونتهما الحارقة على وجنتي، فحاولت بشتى الطرق إخفاءهما، لكنني عرفت انني فشلت  عندما بدأ الجميع يناولني المناديل الورقية.
بعد لحظات يقول الضابط "يللا نزلوهن لتحت" فيأمرنا العناصر بالنزول، يقترب الجميع مني وأشعر بأيديهم وهي تداعب وتفرك كتفي…..ننزل للأسفل، باب حديد، وراءه باب آخر ثم فسحة، على الجانبين توجد زنزانتان، ثم سلسلة من الزنازين والمنفردات في ممرين على جانبي تلكم الزنزانتين، عند دخولنا كانت تطلّ من الشباك الصغير لأحدى الزنازين فتاتان في مقتبل العمر وهنّ يمسكن بقضبان النافذة وينظرن إلينا بشوق، من يعيش تجربة الاعتقال يدرك أن أثمن ما يمكن أن يحصل عليه هو خبر جاء من الخارج.
أوقفونا إلى الجدران على شكل صفين متقابلين واحد للشباب وآخر للفتيات، وصدف أن كان خلفي(شوفاج) تدفئة، وكان المكان المناسب لأرمي فيه دفتري الصغير الذي كتبت عليه الشعارات التي كان من المزمع الهتاف بها في المظاهرة(في الجزء القادم سأحكي لكم قصة هذا الدفتر وما أثاره لاحقاً) . بعد قليل أمرونا أن ندخل إلى مكتب التحقيق واحداً واحداً لنسلّم أماناتنا، الأمانات التي كان يجب أن نسلمها هي كل شي معنا سوى ملابسنا، وبما فيها الحزام(القشاط)، ورباطات الأحذية(الشواطات) بالإضافة طبعاً للهويات والجزادين والموبايلات، حتى إن الخيط الذي ربطه فادي حسين على معصمه أُجبر على قطعه وتسليمه.
 وضعوا أمانة كل شخص في كيس، وكتبوا ما فيه على ورقة، وأعطونا إياها لنستلمها عند الخروج، وبعد أن انتهوا من ذلك أعادونا إلى حيث كنا، في هذه اللحظة تصل الدفعة الثانية من المتظاهرين، كانوا 9 شباب جميعهم يغرقون بدمائهم، وثيابهم ممزقة مهللة،كانت إصاباتهم كبيرة، معظمها في الرأس والوجه، وهم:
المخرج الشاب: باسل شحادة، الطالب بكلية العلوم:عبد العزيز دريد، المهندس محمد أبو زيتون، الموسيقي: رامي العاشق،  الطالب الجامعي: محمد ذاكر الخليل، المسرحي: سالم حجو شقيق المخرج الليث حجو، الطالب بكلية العلوم عبد الرحمن حصين، الطالب بالهندسة المعلوماتية عبد الهادي بازرباشي.
 تحدثت في الجزئين الأول والثاني عما حصل معنا منذ لحظة اعتقالنا أمام جامع الحسن وحتى وصولنا إلى قبو فرع الامن الجنائي بباب مصلى...نتابع

 
بعد وصول الدفعة الثانية من المعتقلين والذين كانوا مصابين جميعاً، جاء من يتفحّص اصاباتهم، ثم تم أخذهم إلى الحمامات ليغسلوا دماءهم، ثم إعادوهم حيث كنا نجلس، وبعد أن سلّمنا أماناتنا كما ذكرت سابقاً، قاموا بإيداعنا في غرفتين هما في الأساس غرفتا تحقيق، وقد خصصوا إحداهما للفتيات والأخرى للشباب، مساحة الغرفة الواحدة مترين طولاً بمثلهما عرضاً، ولكم أن تتخيلوا كيف ستكون حالتنا في هذه الطاسة البيتونية.
 
في غرفة الفتيات كان الوضع أفضل نسبياً حيث كنّ تسعاً، أما في غرفتنا فقد كنا 19 شاباً، وبالكاد كان أحدنا يستطيع جلوس القرفصاء، لكن رغم صعوبة الأمر فقد كانت هذه هي الفرصة الأولى لنجتمع من جديد ونتحدث، تحدثنا كثيراً وكثيراً، وكان الموضوع الوحيد الذي نتجاذبه هو إن كانت خرجت مظاهرة في إثرنا أم لا، هذا ما كان يقلقنا، لأننا أردنا لرسالتنا الثانية أن تصل، مع اطمئناننا إلى أن الأولى ستفعل مفعولها؛ وهي أننا كنّا-كمعتقلين- ننتمي إلى كافة الطوائف السورية، فقد كان بيننا مسيحيان، ودرزيان، وثلاثة علويين، وفتاة شركسية، وأخرى كردية، بالإضافة للسنة الباقين، أقول ذلك غير آسف على هذا الوصف، بل مؤكداً عليه بشدة، إذ إننا مثلنا بتجمعنا هذا كافة أطياف الشعب السوري، وهذه رسالة واضحة ونهائية تفنّد مزاعم السلطات التي تحاول تصوير الحراك السوري على أنه طائفي وديني.
كنا بحاجة لنعرف خبراً واحداً من الخارج يبلغنا ماذا حصل لاحقاً لاعتقالنا، لكننا لم نلبث أن أدركنا أن المعتقلات في سورية لا تعتقل الجسد فحسب....بل العقل والذهن والحرية و حتى الزمن ...إذ لا يمكن للمعتقل أن يعرف الوقت في ذلك المكان المنسي، ولا أهمية له تذكر عندهم، ومعلوم لديكم أن الموبايلات كلها مصادرة، وأنت في قبو معتم لا تصله شمس لتدلك إن كان الوقت نهاراً أو ليلاً... حتى عندما كنا نسأل السجانين عن الوقت كانوا يرمقوننا بنظرات ناهية أن لا تعيد سؤالك مرة أخرى....الانقطاع عن العالم بالنسبة لنا كان أكثر ما يزعجنا كناشطين مهتمين بالشأن العام.

تعرية:
بعد قليل جاء أحد العناصر وبدأ ينتقي بيننا ثلاثاً في كل مرة ويأخذهم بعيداً، لم نعرف بداية لم فعل ذلك، لكننا كنا نسمع همهمة وصراخاً من بعيد دون أن نعلم ما القصة، بعد قليل جاء نفس العنصر وانتقاني أنا وسالم حجو و مهند منصور، أخذنا إلى ساحة السجن، وطلب منا أن نخلع ملابسنا، استفسرنا عن الأمر فقال إن هذه اجراءات عادية في السجن، وتنسحب على الجميع للتأكد من عدم وجود ممنوعات معهم، خلعنا الأحذية والجوارب ثم القمصان والكنزات وتوقفنا، لكنه أشار لنا بالمتابعة، خلعنا بناطيلنا، ثم قمصان الشيال وبقينا في (السليب) أخذ يتفحّص ملابسنا إن كان بها شي، وبعد أن انتهى قال لسالم حجو بكل بساطة "اشلح كلسونك" انتفض سالم وقال مستغرباً "شو.؟" فرد العنصر مؤكداً "شلاح كلسونك وعميل حركتين أمان خلصني" فيرد سالم "شو حركتين أمان هي كمان...شو عمتحكي انت يا زلمي...ما بشلحوا أعوذ بالله" بالمناسبة(حركة الأمان المقصودة هي تشبيك اليدين خلف الرقبة والجلوس جلسة البطة فإن كان السجين يخبئ شيئاً في مؤخرته فسيسقط) هنا تدخلت أنا وقلت له بلهجة حاسمة "إذا بتطبق السما على الأرض ما منشلح" فيرد العنصر "إي مو بكيفك بدكن تشلحوا يعني بدكن تشلحوا...هاد قانون وبدو يتنفّذ" هنا غضبت وقلت وأنا أصرخ وأهمّ بلبس ملابسي "عميل اللي بدك ياه ما رح نشلح" كزّ العنصر على أسنانه وذهب وهو يتمتم إلى غرفة التحقيق الرئيسية حيث كان يجلس أحد الضباط، وبعد دقائق عاد إلينا العنصر منكسراً وقال "خلص لبسو وفوتو" من الواضح أن الضابط طلب منه تجاهل الأمر وعدم الضغط علينا.
عدنا إلى غرفنا، وتوقفوا عن إخراج الباقين، جلسنا ورحنا نتكلم، كانت أصواتنا تدوّي بين جدران السجن المصمتة، وكان هذا مبرراً كافياً لتردد السجانين علينا بين الفينة والأخرى ليقولوا لنا "حاج أكل خرة" كلمة"خرة" هذه تبين لنا مع الوقت أنها من عدة الشغل الأساسية هناك، لكن للأمانة يجب أن أن أذكر هنا أن أحدّ السجانين كان مهذباً معنا بالفعل، لا أدري إن كان هذا بموجب توجيه أو أنه نابع من دافع ذاتي، فعندما جاء هذا العنصر وقال لنا الكلمة المعتادة تلك، صرخ به محمد ملص "حاج تقولولنا خرة يا زلمي " فنظر فيه العنصر وقال "آسف" ثم أشاح وجهه بعيداً وذهب.

ضجيج وتهديد:
رغم ان عددنا كان الأكبر كشباب، إلا أن الأصوات والضجيج الصادر من غرفة البنات كان الأعلى، خصوصاً مع الجدالات والصراخ الذي كانت تطلقه الحقوقية مجدولين حسن في وجه السجانين كلما أساؤوا الأدب في التعامل معنا، فتبدأ بتوضيح حقوقنا القانونية والدستورية تساندها من خلفها ريما فليحان ويم مشهدي ومي سكاف، فيملّ السجانون من نقاشها ثم يذهبون ليعودوا بعد بعض الوقت ليرمقوننا بنظرات قاسية، ويقذفوا ببعض الكلمات المهددة التي لم نكن لنأبه بها.
بالنسبة لي كان وعيي قاد عاد ليجلدني ويؤنبني بشدّة كيف سكتّ للرائد أمين هواش بعد كل ما فعله بي، كنت غاضباً جداً وأنا أتذكّر ما حصل، وكيف تركت الأمر يمرّ هكذا، وبدأت أقول في نفسي "لماذا لم أضربه كما ضربني وليحصل ما يحصل....وإن لم أضربه لماذا لم أردّ عليه بقسوة على الأقل؟"  أعتقد أن ما حصل معي وقتها أشبهه بما يحصل للشاب عندما يرى الفتاة التي يحب، فينسى كل ما حضّره لها من كلام طيلة أيام  لمجرد أن يرى عينيها، وعندما يفترقان يقضي بقية يومه يتأسّف لمَ يقل لها هذا وذاك...طبعاً مع فارق بسيط، بل كبير هو أن ما جمعني بالرائد الهواش حبٌّ من نوع آخر وأكثر بشاعة..!!.
مرّت ساعتان قبل أن يأتي أحد الضباط  ليهددنا بعزلنا في المنفردات إن لم نصمت، عندها قلت له بكل برود "عنكن منفردات بتكفينا كلنا؟" فانزعج وقال لي "تعا إنت لشوف" فقمت إليه، وقادني إلى الزنزانات المنفردة وهو يتمتم بكلمات شتيمة كان حريصاً على أن لا يسمعني إياها، وعندما وصلنا إلى إحدى المنفردات، توقّف، ثم نظر وقال لي "روح رجاع....تاني مرة رح فوتك عن جد" . رجعت إلى زملائي بعد أن مررت أمام غرفة الفتيات وغمزتهن بطرفة عين كانت كافية لتوصل عشرات الرسائل، ثم عاودنا الحديث من جديد، وبعد قليل جاء العنصر (المهذب) ذاك وقال لنا "بشرفكن حاجة حكي شباب...كلنا سوريين على بعضنا خلصولنا طيزنا" فقال له فادي زيدان بكل برود "هاد الحكي الحلو" فرد العنصر "طيزنا..!!" فقال فادي مصححاً " له...إنو كلنا سوريين على بعضنا" رد العنصر "شفتوا كيف... ليش لكان تظاهرتوا؟" يرد فادي "خيو من الآخر...أنتو جماعة منحبك..ونحن جماعة ما منطيقك...منشان هيك تظاهرنا" عندما سمع العنصر ذلك ارتفع حاجباه بشكل لا إرادي كالنابض، لكنه بلع ريقه وتقبّل الأمر ثم أشار بعينيه إلى الكاميرا المنصوبة على سقف الغرفة، فتابع فادي مزحه وقال "هي صورة بس ما فيها صوت...عندي متلها" فتململ العنصر ثم ذهب.
بعد ذلك بدأنا حديثاً اخترق كل السقوف، لن تتوقعوا ماذا قلنا.... بدأنا الكلام عن مرحلة ما بعد سقوط النظام الذي كان بالنسبة لنا أمراً مؤكداً لا جدال حوله، ولكم أن تتوقعوا أين انتهى....محاكم علنية...انتخابات رئاسية حرة....و....و.
أصدقكم القول إن ما تمكنّا من قوله في ذلك المكان قد نخشى حتى التلفّظ به مع أصدقائنا في الخارج...لا أدري كيف حصل ذلك...لكنه حصل..!!

مع الشبيحة:
مع ازدياد الضغوطات الإعلامية في الخارج بدأنا نحن في الداخل نشعر ان الرقابة تخفّ علينا، فقد خرج معظم العناصر الذين كانوا يشتمون وآتى عناصر أكثر تهذيباً، لكن أحدهم على الأقل توضّح لنا أنه أرسل بمهمة محددة، فقد دخل علينا وقال بكل بساطة "الله وكيلكن يا شباب...مافي أحلى من القانون...وهون نحنا منطبق القانون ع الكل، شوفوا مثلاً الزنزانة اللي جنبكن بتعرفوا مين هنن؟؟" أومأنا بـ"لا" فقال "هدلول اللي هجموا على السفارة الأمريكية والفرنسية...يعني موالين...الله وكيلكن صرلهن 3 أيام هون...القانون فوق الجميع" ثم ذهب، فعلاً أثار الموضوع فضولنا، وبدأنا بالوتوتة، وحيث إن باب الغرفة ترك مفتوحاً فقد أطلّينا برؤوسنا لنرى من هم أولئك، كان باب غرفتهم مفتوحاً أيضاً، وكانوا يجلسون في الخارج، خمسة شبان، أحدهم فقط كان بالعقد الرابع من عمره، وهيأته كانت كالشبيح النموذجي الذي نعرفه، حليق الرأس، كثّ الذقن، مفتول العضلات، وكانوا جميعاً يرتدون كنزات قطن بيضاء مكتوب عليها منحبك مع صورة للرئيس، نظرنا من حولنا فلم نجد من يمنعنا من الخروج إليهم، شعرنا أنه يمكننا فتح حديث معهم رغم تضارب مواقفنا، إذ ما يجمعنا كثير؛ ليس أقلّه أننا سوريون على بعضنا، وليس أكثره أننا نحب البلد وإن كلّ بطريقته، ذهب خمسة منا إليهم وكنت بينهم، تبادلنا السلام وجلسنا، وبدأنا الحديث، المميز بينهم كان أبو بمحمود بهيئته التشبيحية التي أشرت إليها، سألنا أبو محمود ماذا يفعل هنا؟، فأجابنا بكل وضوح "جابونا للشام من جبلة بالباصات، كنا 500 واحد، هجمنا على السفارتين الفرنسية والأمريكية ولما خلصنا اعتقلونا وجابونا لهون" استرعى انتباهنا الموضوع وبدأنا الدخول بالتفاصيل، ما فاجأنا فعلاً أن أبو محمود رجل بمنتهى الطيبة والبساطة، فهو فلاح فقير بل معدم، بسيط وغير متعلّم، وكل ما يعرفه أن سورية في خطر ويجب الدفاع عنها!!....بداية كنّا حذرين أن تكون هذه مسرحية جديدة من المسرحيات الممجوجة للمخابرات، لكن مع استمرار حديثنا تبين لنا فعلاً أن ابو محمود ورفاقه هم من يصحّ عليهم الوصف "المغرر بهم" الحقيقيون، بكل بساطة تم إحضارهم من جبلة على عجل، ثم تم استخدامهم لهدف سياسي، ثم قبض عليهم لتظهر السلطات السورية أمام الدبلوماسية الأمريكية والفرنسية بأنها غير راضية عما فعل أولئك، وأنها ستعاقبهم..!كان معظمهم يشعرون بمهانة كبيرة، سيما وأنهم رؤوا معاملة خاصة معنا من قبل إدارة السجن رغم أننا "خونة" بنظرهم.
في نهاية حديثنا قال أبو محمود بالحرف الواحد متأسفاً ساخطاً "يلعن دينن...أنا شو جابني لهون من 400 كيلو متر ليزتوني هالزتة، اقسم بالله تارك مرتي و3 ولاد وما معي 300 ليرة بالبيت" صرنا ننظر لبعضنا وعيوننا تتساءل كيف جعلوا أبو محمود ورفاقه ضحية مرتين..مرة بخداعهم، ومرة بإذلالهم.
في مقابل شخصية أبو محمود كان هناك شاب آخر يستمع إلينا من بعيد ولم يعجبه الحديث الذي دار بيننا وبين أبو محمود، وتبين لنا أن ذلك الشاب الذي قبض عليه بنفس الحادثة لم يأتِ معهم من جبلة، إنما هو يسكن في دمشق، وقد جاء ليتظاهر أمام السفارة الفرنسية بعد أن سمع بالتجمهر أمامها من أصدقائه....كان هذا الشاب موتوراً جداً ويشرّع بيديه يمنة ويسرة ويكاد فمه يتمزّق وهو يتحدّث عن وجود العصابات المسلحة التي رآها بعينه في جسر الشغور، وكيف سمع بأذنيه المتظاهرين يخرجون من جامع عبد الكريم الرفاعي بكفرسوسة يهتفون"بالروح بالدم نفديك يا إسرائيل..!!" وأن (صاحبته) أخبرته أن المتظاهرين في داريا يحملون البنادق، وأن صديقه في حمص أخبره أن أحد المتظاهرين كان يوزع الدولارات على المتظاهرين...وأن وأن قصص وحكايا لا تجد لها طريقاً في عقل طفل صغير، لكنه شخصياً كان يصدّقها ويتبناها بالمطلق، الغريب في الموضوع ان هذا الشاب هو الوحيد المتعلّم بين المجموعة وهو يعمل صحفياً في جريدة الثورة، لكنني سأتحفّظ على ذكر اسمه هنا كي لا أشهّر به.
وبعد أن شعرنا أن الحوار سيتأزم بيننا عدنا إلى غرفتنا ورحنا نتحدث عن هذه المفارقة العجيببة، فالجاهل في الموالاة  شخص طيب في الغالب، والمتعلّم منهم هو الحاقد والخطر فعلياً، مفارقة غير متوقعة جعلتنا نفهم كيف يسيّر الشبيحة بالشحن والتعبئة ثم يتركوا ليكملوا الباقي بينما (الفاهمون) يجلسون يتفرّجون عليهم.

إلى الزنزانات:
مع استمرار هرجنا ومرجنا دخل ضابط كان يبدو لئيماً، صرخ بنا و أمر بتفريقنا على الزنزانات التي يحتجز فيها المتهمون الجنائيون، وهذا ما حص، فقد وضعت بعض الفتيات في زنزانات المتهمات بالدعارة، وأخريات بالتشرد، الشباب أيضاً(كل واحد هو وحظه) بالنسبة لي وضعوني أنا وسالم حجو في زنزانة فيها 5 رجال، كانوا نائمين إلا واحداً، عندما دخلنا وقف هذا الرجل، واسمه ابو حسن ليرحّب بنا، واختار لنا مكاناً للجلوس، وطلب من العناصر أن يأتوا لنا ببطانيات ففعلوا، مددنا البطانيات في إحدى الزوايا وجلسنا، كانت الزنزانة قذرة جداً، ورائحة النتانة تخرج من (التواليت) المعتم في زاويتها، لكننا رغم ذلك كنا مضطرين لفتح باب التواليت والتنعّم بروائحه ليبقى الهواء يجري في المكان حيث إن فيه فتحة صغيرة تطلّ على المنور، قذارة الزنزانة لا يمكن وصفها إلا بالتالي "تشبه نفسها ولا شيء آخر"، أما الصراصير فكانت (تتمردح) على كيفها وكأننا نحن من اقتحم عليها منزلها، فهي تسير بلامبالاة أو خوف على الجدران وعلى الطعام وعلى وجوهنا.... صرنا نقتلها أنا وسالم بأحذيتنا، شخصياً قتلت أكثر من 30 منها، لكن أبو حسن منعني من الاستمرا بارتكاب هذه المجزرة مبرراً "لا تقتلن يا أخي...شو مأثرين عليك، بعدين بس تقتل واحد بيجوا رفقاتوا ليطلعوا بجنازتوا بيقوموا بيكتروا" ضحكنا على هذا التعليق الظريف، وتوقفنا عن قتل الصراصير، أبو حسن شخصية لافتة جداً، ظريف، خفيف الظل، وهو شاب وسيم ويتمتع بجسد رياضي كلاعبي الجمباز.
سألَنا ابو حسن لماذا أتوا بنا إلى هنا؟ فأخبرناه، ابتسم وقال "اي شبدكن بهالشغلة...أنتو قدهن انتو؟"....وتابع  حديثه "شوف أخي  أنا ما بشتغل بالسياسة منوب...أنا بشلّح...بسرق...بضرب....بقتل إن لزم الأمر....بس ما بفسفس على رفقاتي...أنا مالي خوّان...إيوا" ظننا لوهلة انه يمزح، لكنه قال جملته بجدية كبيرة وبإصرار حاسم...إنه رجل مبدئي فيما يخصّ أصدقاءه، وعدا ذلك فإنه يفعل كل شيء...كان أبو حسن بين الفينة والأخرى يهتمّ لراحتنا ويقول "مرتاح عندك..أعطيك بطانيتي...إذا بدك ليكها ربطة الخبز كلو كلو".
كان جسد أبو حسن كله مشطّباً عند فخذيه وساعديه، كان واضحاً أن ذلك لم ينشأ عن تعذيب، حيث إن مفعول هراوة واحدة كان ليعطي نتيجة أفضل من كل هذه الخرائط المبعثرة....قلت له "ليش جسمك مشطّب هيك؟" فرد.."من كم يوم عملت استعصاء"، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذه الكلمة على غير ما أعرفها فيها (استعصاء سلاح) قلت له "شو يعني؟" فأجابني "كانوا الشباب ما عميرضوا يجيبولي دخان قمت جبت شقفة سيراميك وحتيتها لحتى صارت متل الشفرة وصرت شطّب بحالي لحتى جابولي دخان"....هذا هو الاستعصاء..!!

الرجل البخاخ
 
بينما كنا نتحدث قال أبو حسن "رح فيّق الرجل البخاخ...بينبسط بوجودكن" ثم أخذ يلكز أحد النائمين إلى جانبه ويقول له "قوم...اجو رفقاتك" فانتصب هذا بسرعة وقال "وينن؟" فردّ عليه أبو حسن "قصدي يعني متلك متظاهرين" كان شاباً في العقد الثالث من العمر، وسيم، عيناه ملونتان، كلامه وحديثه وهيئته تدل على أنه متعلم و(شبعان)، بدأنا نتحدث، وعرفنا أن اسمه أحمد خانجي، وهو مهندس، يسكن في منطقة أبو رمانة الراقية في دمشق، ولديه عمله الخاص وسيارته الحديثة... سألنا أحمد "شو جابك لهون؟" فحدثنا عن قصته؛ كان أحمد يخرج إلى دمشق القديمة ويكتب عبارات ضد النظام على الجدران، وفي إحدى الليالي وبينما كان (يبخّ) عباراته في المنطقة وإذ ببعض الأهالي يلمحونه، فيطاردونه بين الحارات، وفجأة يفتح له أحدهم الباب ويدعوه للدخول، وعندما يفعل يقوم هذا بإغلاق الباب عليه ثم إحضار الشرطة لتعتقله، كان أحمد متألماً جداً... ليس من الاعتقال بحد ذاته، بل ممن سلّمه للشرطة وقد دخل إلى بيته آمناً.... قصة أحمد لم تنته هنا، فبعد أن قبضت الشرطة عليه وضعوا الأصفاد في رجليه واقتادوه بشكل مهين ليدلّهم على الأماكن التي كتب فيها عباراته ليدهنوا فوقها ويخفوها قبل أن يطلع الصباح ويراها الناس، خلال ذلك كان أهالي المنطقة (دمشق القديمة) يلاحقونه بالشتيمة والسباب ويطلبون من الشرطة بأن تسلمهم إياه لعشر دقائق فقط كي(يعملوا فيه الواجب) كان أحمد يتحدّث عن هذه اللحظات والدمع يكاد ينفر في عينيه المتورمتين، ولم يكتفوا بذلك، بل بعدما دلّ الشرطة على مكان ركون سيارته قام الأهالي بتحطيمها وتكسيرها أمام عينيه ولم تفعل الشرطة شيئاً.
لفت نظري أن أحمد كما أبو حسن، وجهه وساعداه مليئان بالشطوب، سألته عن ذلك، فقال أن السبب هو الاستعصاء الذي قام به بعد أن وضعوه في المنفردة لأربعة أياتم متتالية كاد يجنّ خلالها.
كان واضحاً أنه وصل إلى وضع نفسي سيئ جداً، فقد آذى وجهه بطريقة لا أعتقد أنه يمكن شفاؤها دون بقاء آثار لذلك إلى الأبد
صرنا أنا وسالم نحاول تطييب خاطر أحمد والتخفيف عليه، لكنه كان يختنق، فهو  محتجز منذ أكثر من عشرة أيام، ومتهم بأن (شغلته كبيرة كتير) وأنه محرّض، حفظت رقم هاتفه ووعدته بأنني سأتصل بأهله حالما أخرج، المؤلم في الموضوع أن أحمد ما زال محتجزاً حتى لحظة كتابة هذه السطور.

إلى الغرف من جديد
في حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً أخرجونا من الزنازين وجمعونا في ساحة السجن، وانتظرنا قليلاً قبل أن يأتي قائد شرطة دمشق ومعه الكثير من الضباط، كان واضحاً أن ثمة من تكلّم بأمرنا حتى جاء ضابط بهذه الرتبة العالية، قام قائد الشرطة بمصافحنا واحداً واحداً ووعدنا بأن أحداً لن يسيء لنا، فطلبنا منه أن يعيدنا إلى غرف التحقيق حيث كنا من قبل، وبالفعل هذا ما حدث، بعض الشباب طلبوا منه السماح لهم بالتدخين لكنه قال "هذا الموضوع عند رئيس الفرع" ثم تركنا وذهب بعد أن أوصى العناصر والضباط بنا.
بعد قليل جاؤوا لنا بالعشاء وكان زيتوناً وشوربة عدس، كنا جائعين حقاً، سيما وأننا كنا قد تواعدنا قبلاً أن نذهب لنتعشى سوية بعد انتهاء المظاهرة، إذ اتفقت معظم تحليلاتنا حينها أنهم لن يعتقلوا أحداً منا تماشياً مع الأجواء التي كان يحاول النظام إشاعتها بعد مؤتمر الحوار الذي كان منعقداً في اليوم السابق، وقلنا في أنفسنا إنهم ليسوا أغبياء ليرتكبوا هذا الخطأ، خصوصاً ان وسائل الإعلام كافة كانت تتحدث عن هذه المظاهرة حتى قبل خروجها، لكن ما تأكد لنا فيما بعد أنهم كانوا أغبياء وفعلوها.
تحلّقنا حول قصعتي الطعام نأكل منهما مثل القطط وهي تجتمع حول زبدية الحليب، وبعد أن انتهينا كنا بحاجة للنيكوتين الذي انسحب من أجسادنا لأكثر من ثماني ساعات متواصلة، طلبنا من أحد العناصر أن يعطينا سيجارة لندخن، لكنه رفض ونهرنا، وقال منزعجاً "خريتوها هيك" بعد قليل أخبرتنا الكاتبة يم مشهدي -التي أطلّت من الغرفة الملاصقة- بأنها أبقت سراً على علبة سجائرها ولم تسلّمها للأمانات، وأرسلت لنا بضعة سجائر، ودخلنا إلى الحمام خلسة ودخنّا على دفعات، بمعدّل سيجارة لكل 3 أشخاص، كنا نقول لأنفسنا "الدولة كلها ما قدرت تنخّعنا بس سيجارة أذلّتنا" هذا ما حصل فعلاً، لقد أذلتنا السيجارة، ومن حينها بدأت أفكر ملياً بترك التدخين ليس لدواعٍ صحية فحسب...بل لكي لا تكون السيجارة كحبات كرز زوربا، وهكذا أمضينا ليلتنا، ونمنا كما علبة السردين، وعلى بلاط أعزل، جاعلين أحذيتنا وأرجلنا وسائد.

إضراب عن الطعام

انقضى نهار اليوم التالي على نفس الشاكلة، حوار حول وضع البلاد، نقاش مع الموالين، جدال مع السجانين، لكننا لم نكن نحصل على أية معلومة حول مصيرنا، وهل إننا سنبقى في الفرع أم سنحوّل إلى الأمن السياسي(كما اشيع) أو إلى القضاء، كان هذا الأمر يقلقنا إذ إنه يضعنا في حالة استنفار وترقّب دائمة تجعلنا غير قادرين على الاستقرار والركون، سيما وأننا لا نعرف شيئاً مما يحصل في الخارج.
في المساء قررت الفتيات أنه لا يمكن السكوت على هذا الموضوع، فمي سكاف وريما فليحان لديهما أطفال، ويم مشهدي ابنها مريض بالتوحّد، وصدف أن الثلاثة مطلقات وهنّ المعيلات الوحيدات لأولادهن، فاتفقنا جميعاً على إعلان إضراب عن الطعام، وبالفعل أتوا لنا بالعشاء فرفضنا الأكل، ظنونا في البداية نمزح، لكننا أظهرنا جدية قرارنا عندما وضعنا الطعام خارج الغرفة، فاستنفر الجميع وبدأت الاتصالات والحركة.
بعد أقل من ساعة جاء العميد عوض أحمد العلي رئيس الفرع إلينا، وكان شخصاً لبقاً ومحترماً لأبعد الحدود، سلّم علينا هو الآخر واحداً واحداً، وصار يتغزّل بثقافتا وفهمنا، وأنه يجب علينا أن نعطي القيادة الفرصة لتقوم بالإصلاحات، وأنه لا ينبغي أن نزيد من حصارها، وقال بأن لنا كل الحق بالعيش بكرامة في هذه البلد حتى لو كنا معارضين للنظام، لكن بالمقابل يجب علينا أن نكون واقعيين وأن لا نحمّل السلطات أكثر مما تحتمل، وأن لا نستغل شهرتنا واهتمام وسائل الإعلام بنا لنضغط على أبناء بلدنا(فالمصارين تتعارك مع بعضها كما قال) ، ورغم أننا نختلف مع رئيس الفرع بطريقة رؤيته للأمور وفهمه لجدية نوايا بالإصلاح، فإننا كنا قادرين فعلاً على تقبّل مثل هذا الكلام، لأنه كلام عقول، يتم بالحوار لا بالاكراه، وقد استغلّيت هذه المناسبة وشكوت له على الرائد أمين هواش وماذا فعل معي، فاعتذر مني رئيس الفرع بأدب، وقال أنه أمرَ المذكور بعدم النزول إلينا بالمطلق في الاحتجاز، وأن أصابع اليد ليست كبعضها، وانه لا يجب علينا أخذ الجميع بجريرة شخص واحد.
وفي نهاية الحديث طلب من العناصر أن يأتوا لنا بالطعام، هنا صرخت مجدولين حسن بأننا لن نأكل حتى يتم الافراج عنا، لكن العميد تمنّى علينا إنهاء هذه القصة، وطلب من العناصر أن يؤجلوا جلب الطعام لبعد ساعة لحين نكون قد (رقنا)، هنا تدخلت ريما فليحان ووقفت وقالت "لو بتجيبوا الأكل بعد ساعة، ولا بعد شهر، ولا بعد سنة نحنا مضربين...وعملوا اللي بدكن ياه"
عندها نظر العميد فيّ وقال لي بكل "شو إستاذ اياد...معقول البنات يمشّو كلامهن عليكن؟" فقلت له"والله يا سيادة العميد نحنا بأمر الصبايا، ومتل ما سمعت حضرتك، نحنا مضربين كلنا، وبتعرف ليه" فقال "يا شباب...اليوم الخميس وبكرة الجمعة يعني محاكم وقضاء مافي، والله لو في قضاء لحولكن هلأ، بوعدكن وبناء على أوامر من القيادة إنو يوم السبت الصبح بتكونوا بالمحكمة، يعني ما رح نحولكن لأي فرع تاني، مباشرة على المحكمة" قلت له "والمحكمة شو حتقرر؟" فرد  "هاد الموضوع ما بقدر جاوبكن عليه، بتعرفوا القضاء مستقل" نظرنا ببعضنا وكأننا نقول ساخرين "فعلاً مستقل..!!" وتابع العميد "وهلأ بتمنى عليكن تحلوا هالقصة وما تسببولي أي ضغط...بعتقد أنا شخصياً ما أسأت لكم" نظرنا في بعضنا ولا أخفي أننا شعرنا بالراحة عندما علمنا أننا سنحوّل للقضاء، عندها قال الضابط "هي جاوبت على كل أسألتكن ..شو نخليهن يجيبوا الأكل؟" فقلت له، لازم نتناقش ونقرر بين بعضنا، قال العميد "يلا تناقشوا" هنا قلت للعميد وسط استغراب الجميع "اتركنا لوحدنا 10 دقائق" ....لا استطيع أن أصف لكم هول المفاجأة الذي سقط على وجوه الضباط والعناصر وأما أتحدّث مع (معلمهم) بهذه الطريقة، لكن العميد تقبّل الأمر مبتسماً وخرج ينتظر في الخارج والعناصر والضباط من حوله يكادون ينفجرون غيظاً دون أن يجرؤوا على الكلام. اجتمعنا جميعاً فتياناً وفتيات، وتناقشنا بموضوع الإضراب، ثم قررنا في النهاية الرضوح للقرار الديمقراطي والتصويت، قمنا بالتصويت، وكانت النتيجة 15 لصالح فك الإضراب مقابل 13 لبقائه، كانت هذه أول تجربة ديمقراطية في حياة معظمنا، وقد استمتعنا بها بالفعل، ثم خرجت إلى العميد الذي كان يقف في الخارج متلهفاً وكأنه يترقب نتيجة الامتحان، وعندما رآني كان وجهه عبارة عن اشارة استفهام، فقلت له "لقد قررنا بالأغلبية فك الإضراب" وإذ بالابتسامة والسعادة تشرق في وجهه، وصار يصرخ للعناصر فرحاً "هاتوا العشا هاتوا العشا" وركض العناصر ليأتوا لنا بالطعام وبكميات مضاعفة هذه المرة، وقبل أن يذهب العميد قلت له "شفت يا سيادة العميد كيف إنو الديمقراطية بتحل كل المشاكل؟" فأجابني ضاحكاً "فهمان عليكن فهمان عليكن" وذهب تاركاً الضباط البقية يكظمون غيظهم مما حصل.

دفتر الهتافات

كنت قد أشرت لكم في الجزء السابق إلى دفتر الهتافات الذي كنت رميته خلف الشوفاج في باحة السجن كي لا يلتقط بحوزتي، هذا الدفتر وقع بين أيديهم لاحقاً، فدار أحد الضباط بين الغرف يسألنا عنه، فأنكرنا جميعاً أنه لأي منا، لكن الضابط –ونحن- كنا نعلم أن الدفتر هو بالتأكيد لواحد منا، زملائي كانوا يعرفون جميعاً أن الدفتر لي لكنهم  أنكروا، استمرّ الضابط بالسؤال طيلة ساعتين، وهو يأتي ويذهب ويسأل "يا شباب حدا يقول هاد الدفتر إلي ويخلّصنا أحسن ما نعمل منو قصة" لا نرد "لا تضطروني جيب خبير خطوط واستكتبكن واحد واحد...بيجوز هي الشغلة تاخدلها يومين ويتأجل تخريجيكن" لا نرد "إذا فعلاً انتو أصحاب موقف الرجال فيكن يقوم ويقول هاد الدفتر إلي" نصمت جميعاً ونحن نضحك في سرّنا من هذا الاستغباء  لعقولنا، في النهاية نفّذ شارلوك هولمز تهديده وأتى بخبير خطوط، وضعوا طاولة في منتصف ساحة السجن، ونادونا ثلاثاً ثلاثاً، وصار (الخبير) يقرأ من الدفتر ونحن نكتب وراءه "خاين يللي بيقتل شعبو، والخاين حكمو الإعدام...الله سورية حرية وبس....مافي خوف مافي خوف، القلب صار كلاشنكوف..."، وهكذا كان يتم الأمر مع كل مجموعة، كنا طيلة الوقت نضحك كيف أن الشعارات التي مُنعنا من ترديدها في المظاهرة التي لم تخرج، ها هي تردد هنا وفي قلب المعتقل ولعشرات المرات...بل هم من يرددونها وعلى ألسنتهم..... فعلاً كانت مفارقة لافتة ما زلت أشعر بمتعتها حتى اللحظة.
بعد قرابة الساعة انتهى الخبير من استكتاب الجميع، وأخذ الأوراق وذهب، وبانتظار النتيجة كان الضابط  يأتي إلينا كل ربع ساعة ويقول لنا مهدداً  متوعداً"ما بدكن تحكو...هلأ حنعرف مين وحياكل جزاتو"...."عشر دقايق وبتطلع النتيجة...ماشي" وبعد قليل جاءت النتيجة، وكانت مثاراً لسخريتنا طيلة تلك الليلة، إذ إن خبير الخطوط العتيد شكّ بثلاثة منا هم محمد ملص، ود.بلند حمزة، وسالم حجو، ولم أخطر أنا على باله من قريب أو بعيد وأنا صاحب الدفتر الحقيقي، ولأنه لم يستطع حصر الاتهام بواحد، نادى الضابط على الثلاثة وصار يقول لكل منهم "قول والله الدفتر مو إلك" فيجيب "والله مو إلي" وهكذا فعل مع الثاني والثالث... كان الضابط مغتاظاً جداً، إذ إنه لا يستطيع اتهام الثلاثة بدفتر واحد، فما كان منه إلا أن وقف وقال "على كل حال أنا كنت عم اختبركن إنكن رجال ولا لأ...بس للأسف طلعتوا مو رجال" ورمى الدفتر وخرج متزعجاً، بينما قضينا نحن تلك الليلة نضحك.

مسرحية في السجن
بعد عشاء ليلة الجمعة خطرت على بالي فكرة، "لماذا لا يعرض التوأم ملص مسرحيتهم في السجن" فالمسرحية "الثورة غداً تؤجل للبارحة" كانت تدور حول متظاهر معتقل وضابط، وهي تشبه حالنا تماماً، أخبرت التوأم باقتراحي فلم يستطيعا مقاومة إغراء الفكرة، وبالفعل بدأنا نحلل القصة ومدلولاتها، وكيف أنها ستكون سابقة بين جميع التجارب المسرحية، عرض بهذه الجرأة يقدّم في المعتقل، الخطوة التالية كانت كيف نفعل ذلك؟، انتظرنا حتى ذهب الضابط المسؤول، وجلسنا وظهرُ كل منا إلى ركبتي الآخر وبدأ التوأم ملص بالتحضير، في متن عرضهما الأصلي كان محمد ملص يلعب دور المتظاهر المعتقل والمصاب في رأسه، لكن هنا كان أحمد هو المصاب فعلياً ، وبحركة مضحكة نزع أحمد الضمادة عن رأسه ووضعها على رأس محمد، ثم قمنا بلف بطانية على بعضها، ووضعها أحمد تحت قميصه لتصبح ككرش... وبدأ العرض.
لمن لا يعرف العرض فهو يدور بين شخصيتين، إحداهما(الضابط) وهو شخصية نموذجية كالتي نعرفها تماماً سواء بطريقة تفكيرها أو بلهجتها الساحلية، و(المتظاهر) وهو شاب متعلم تعرّض للضرب على يدي قوات حفظ النظام، ويدور الحوار بينهما إلى أن نكتشف أن الضابط في الحقيقة هو (دمشقي) ولكنه ينطق باللهجة الساحلية بحكم عمله، بينما المتظاهر هو الساحلي.
المهم...بدأ العرض، وكان يحضره إلى جانبنا بعض من المعتقلين بحادثة الاعتداء على السفارات، بالإضافة إلى بعض عناصر السجن، وعندما بدأت الشخصيات تتحدث عن طريقة قمع المتظاهرات، وكيف يتم الاعتداء على المتظاهرين بدأ عناصر السجن يتململون، فقطعوا العرض عدة مرات "لا لا...شو هالحكي....شو عمتعملوا انتو..!!" نقنعهم بالسماح بالمتابعة، ثم بعد قليل "وقف وقف...بدنا نحكي مع الضابط...نادولي الضابط" لكن الضابط خرج، نقتعه من جديد، ثم يوقف العرض مرة أخرى بنفس الطريقة،  لكن بعد أن تبدأ الشخصيات بتوضيح حقائقها، وكيف أن الضابط شخص طيب، وهو يريد الحرية أيضاً و...و...يسمحون بالمتابعة، إلى أن ينتهي العرض.
ولأننا مقسمون على غرفتين، كان لا بد من تقديم العرض للفتيات، هنا سمح العناصر بتقديم العرض دون مقاطعة هذه المرة، وتابعوه بشغف وضحكوا كثيراً....بالفعل كانت تجربة مميزة سيسجلها فرع الأمن الجنائي في تاريخه.

 إياد شربجي -