الجمعة، 17 فبراير 2012

عاشق الشام.. عاشق مرجعيون


وداعا انتوني شديد




  توفي  الزميل انتوني شديد خلال محاولته الخروج من منطقة ادلب نحو تركيا بعد ان انجز تحقيقا لصحيفة نيويورك تايمز عن الجيش السوري الحر. وكان انتوني قد دخل الى ادلب في سوريا قبل نحو اسبوع حيث كان من المقرر ان يلتقي زوجته ندى في انطاكيا ليمضيا اجازة عائلية في اسطنبول، وثم العودة الى بيروت والتفرغ لانجاز كتابه الثاني عن ثورات الربيع العربي. وكان انتوني قد حاز مرتين على جائزة بوليتزر الصحافية (2004 و20109 ) لتغطيته الحرب الاميركية على العراق والفوضى اللاحقة  وقد رشحته صحيفته نيويورك تايمز لنيل الجائزة على تغطيته للربيع العربي.
انتوني شديد اللبناني الاصل من بلدة مرجعيون في جنوب لبنان، انهى قبل اشهر ترميم منزل اجداده في البلدة على ان يقيم فيه دوريا . كما  اصدر كتابا تحدث فيه عن سيرته العائلية (بيت من حجر) اذ كان من المقرر ان يقيم حفل توقيعه في بيروت الشهر المقبل، وترجمته لاحقا الى اللغة العربية.
                                                                                                                          (قلم رصاص)


الخميس، 16 فبراير 2012

متضامنون مع سوريا



   مواطنون من الجنوب يتضامنون مع الثورة السورية

 



 أصدر مواطنون من جنوب لبنان بياناً موقّعاً من كتّاب وباحثين وأساتذة جامعيين ومحامين ومهندسين وفنانين وصحافيين وطلاب وناشطين يتضامنون فيه مع الثورة السورية جاء فيه:  » نحن مواطنون لبنانيون من الجنوب اللبناني، من مشارب سياسية وفكرية مختلفة، عانينا الاحتلال الاسرائيلي والتهجير والنفي والحروب على مدى عقود، وعانينا كذلك ظلم الفيتو الذي كانت تستخدمه أميركا في مجلس الأمن لحماية جرائم إسرائيل ضد أهلنا وأخوتنا وأطفالنا ».
وأكَّدوا استمرارهم « في الوقوف الى جانب الشعب السوري، وهو يُكمل السنة الأولى من عمر ثورته، ثورة الحرية والكرامة، وثورة إسقاط الاستبداد وطيّ صفحة حُكم الإرهاب والقمع القابض على سوريا منذ أكثر من أربعين عاماً ».
وتوجّهوا في بيانهم إلى « أهل مدينة حمص، الذين استقبلوا كما الكثير من أهل المدن السورية نازحين من بلداتنا ومدننا الجنوبية خلال حرب تموز وآب عام 2006، لنُحيّي صمودهم ولنقول إن انتصارهم المقبل هو انتصار لجميع الأحرار في سوريا وفلسطين ولبنان. فالمعركة في وجه الاستبداد وهمجيّته هي صنو المعركة في وجه الاحتلال وعدوانيّته، وهي السبيل الوحيد لتحرير سوريا ».

بيان إعلامي 16-02-2012

الأربعاء، 15 فبراير 2012

رقصة عاشقة



                
                   رقصة عاشقة
 
 من على شرفة قلبي النابض بكَ
أعشق الليل الذي بأنفاسكَ موشّى
وأسائل الشوق أن يحملني إليكَ
أنا المذبوحة بنصل المواعيد المؤجلة
والشهيدة على عتبة الإنتظار
وأنا بغيابكَ حزن الأنبياء والمطر
والمبللة أنا بكَ حد الغرق
الساكنة فيكَ حد الوجع
حد السكينة والحياة
..........
تعبت أصابعي وهي تناديك
ناديتكَ بملامحي.. أحبكَ
رجع الصدى وبُلّ الندى.. ولم أزل ثملة
من فرط ما إنهمر من ثغركَ
.................
وأنتظركَ عند تراقص عشقنا الندي كل مساء
تأتيني مكللاً بالحياة
وتعلنني لجمهور النجوم قصيدة قمرية
يا صوتكَ قصيدة الصوت
يا وجهكَ قصيدة النور
بغيابكَ لا يشبهني سوى إسمي وأنتَ تناديني
....................
وأتهادى بخفر على أهداب مداك
وأرتجف بضع قطرات من ندى عشقكَ
فتحوّلني إلى اَلهة ترفرف على فضاءاتكَ
سكرى بكَ
يا أنتَ القصيدة التي لا تنتهي وإن نام القمر
..........................
تسكب نبيذ بعادك النازف
على ضوء قمري فتضيء جهاتي الأربع شوقاً
فأحبكَ حد إعتناق وجهك
                                                                                                                      (يسرى)



الثلاثاء، 14 فبراير 2012

لكي تبقى فلسطين قبلتنا

من ابراهيم الامين 
الى عماد مغنية في ذكرى استشهاده


   لكي تبقى فلسطين قبلتنا 

 

إبراهيم الأمين
أحوالنا ليست بأفضل الأحوال. البلاد التي تركتَها ذات عشية، يغمرها الظلام ويغزوها المجانين من خارجٍ لا يزال مصراً على استعمارنا كل يوم. التخلف والكراهية والحياة القاسية لم تحل دون تحوّل المواجهة إلى عملية قتل مستمرة. ربما كان لك مرادك، ولم تعش لترى بلاد الشام في حالها اليوم. فجأة، حُوِّل احتجاج على فقر وقهر إلى فرصة للانقضاض على موقع رئيسي للمقاومة. أولئك الذين قررتَ عدم مقاتلتهم وحصر رصاصك بوجه العدو، صاروا ينوبون عنه في مهماته الدموية. صار للعرب سيف بلون علم إسرائيل، يقتل فينا باسم الحرية والعدالة والكرامة. وصارت للعرب ألسِنة ترفع صوت الفتنة فوق صوت الجهاد بوجه إسرائيل. وصارت للعرب أيدٍ تمتد إلى حيث لم تنجح إسرائيل في الوصول، وإلى حيث فشلت أميركا في الوصول.
كان ينقصك مشهد هروب الأميركيين من العراق. ربما كانت قد تسنت لك زيارة البلد الذي أحببته وأحببت فيه أمكنة وأُناساً. وبذلت ما استطعت في دعم مقاوميه ضد الاحتلال الأميركي. لكن المحتل الفاجر الهارب، لا يريد للمشهد الجميل أن يظهر مرة واحدة. ترك خلفه ألغام الحروب الطائفية والمذهبية، وترك خلفه ألغام الحروب البديلة. الناعمة منها حيث يقدر، والخشنة حيث يفيده رجاله الذين نزعوا في لحظة واحدة كل الأقنعة وجاهروا بعدائهم لكل ما له صلة بالمقاومة. وهم الذين يعملون ليل نهار، لشق صف المقاومة نفسه، وأيضاً، باسم الحرية والعدالة والكرامة.
حالنا ليس بأفضل حال، وجمهورك الممتد من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، يعيش حالة ارتباك. لا يميز فيها بين مقاومة يريد العالم لها الموت، وحرية تقتصر على الصراخ قهراً دونما تغيير.
حالنا هنا ليست أيضاً بأحسن الأحوال. جرّنا لبنان إلى وحوله السوداء الكريهة. صارت المقاومة جزءاً من سلطة لا تقوى على معالجة حفرة في طريق. وصارت المقاومة غطاءً لجيش من الفاسدين الذين يتوالدون بأسرع من الطفيليات. وصارت المقاومة، حاجزاً، يمنع تناول أولئك الذين عاشوا على دماء المقاومين، تآمراً أو احتيالاً.
حالنا ليس بأفضل حال، عندما حشرونا في زاوية الاختيار، بين سلطة لا مجال لتقويمها مع جيش زعران الطوائف، وبين شارع أنهكته الحروب والزعبرات اللبنانية. وعندها وقعنا في فخ الطائفيين الذين يريدون للبلد أن يكون على شاكلتهم، لا إصلاح فيه ولا مكان آمناً للحياة.
حالنا ليست بأفضل حال، وحزبك الذي كبر مرات ومرات بعد انتصار تموز، يعاني ركوداً تنظيمياً. ليس معروفاً سبب عدم التجديد فيه. وليس معروفاً سبب انصراف البعض منه، أو من محيطه، أو من مريديه إلى لعبة الدنيا النتنة. فضرب الفساد بعضاً منه، وخرج من بيتنا عملاء لألد الأعداء في الكون.
حالنا ليست بأفضل حال، ونحن نحسب خطوات من هنا ومن هناك، لكي لا نغضب طائفياً هنا، أو لنتجنب مواجهة سارق أو مجرم هناك. أو نسير في الطريق كمن يسير في حقل ألغام الدنيا، ولا يحصل أن ينجو دائماً من فخاخها. فنصاب هنا أو نتعثر هناك، في مقابل مثابرة من أعداء يتلقون الخسائر، لكنهم يستمرون في معاندة التاريخ، وفي السير نحو المزيد من الجنون.
لكن، ثمة أمل كبير، بيد مجموعة من رفاقك الذين ما غادروا الساحة. وما التهوا عن قضيتنا الأساس، ولم يستفزهم ضعف بعض النفوس. هؤلاء الذين ما زالوا يتخذون من الليل رداءهم، يزيدون فيه من قوتهم وبأسهم، ويعدّون العدة ليوم آتٍ، هو اليوم الذي يريد فيه العدو أن يجرب حظه مرة جديدة، وحده أو بمساعدة الكون كله، وحتى بمساعدة أبناء جلدتنا، من أجل انتقام يراد لدويّه أن يصيب كل من يفكر بقول لا لأميركا أو لإسرائيل.
هؤلاء هم الرفاق والإخوة والأبناء الذين يحفظون وصيتك، بأن تبقى فلسطين قبلة الأحرار في كل العالم.
حاج عماد، ليس لدينا ما يعيننا على قهرنا، سوى صبرنا. أبطالنا هم شهداؤنا، أما أحياؤنا، فلهم غدهم الذي لا نعرفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاخبار ـ العدد ١٦٣٤ الثلاثاء ١٤ شباط ٢٠١٢
http://al-akhbar.com/node/35082

الاثنين، 13 فبراير 2012

من قصص الثورة السورية


من قصص الثورة السورية (1)


 
     رواها: عروة  من درعا
    كتبتها: شروق احمر ـ دمشق 
 
   أضاءت السماء واشتعل الشرر بالعتمة الداكنة. ومن النافذة الضيقة تسربت رائحة الرماد إلى رئتيه الضيقتين. ولأول مرة كانت روحه خارج جسده. يستشعرها تتسرب من المسامات الضيقة الآخذة بالإتساع. تماوجت الأخيلة في رأسه وكأن الأشياء من حوله كانت ترقص. رقصت الجدران والأبواب والأضلع الرقيقة التي كانت تسند بقايا جسده. وفي خدر النعاس اللذيذ المرسوم على السرير الدافئ نهض وعيه كاملاً يحمل رؤية عميقة ارتدت من أكثر الأماكن غرابة في ذاكرته. لم تكن ذاكرة. كانت خليطاً معقداً من المشاعر التي اختزنت في جميع أنحاء جسده منذ اللحظة الأولى التي لامست أصابع أمه جسده الصغير قبل 25 سنة. حينها ابتسمت تحت وابل حبات العرق المتساقطة من فوق جبهتها بعد عراك طويل مع المخاض المؤلم. وأحنت بأصابعها المرتعشة على بشرته البيضاء الرقيقة التي اشتعل الدم من تحتها كأنها مجرة جديدة تتفجر في أنحاء الكون.
 *
 استشعرت تلك الغلالة الرقيقة التي صعدت من روحه خلف الشاشة المستطيلة. كانت تتسرب من ملايين البلورات الزجاجية المتماوجة بآلاف الألوان والأشعة. وسكنت روحها تلك المشاعر التي أعيت جسدها وأردتها صريعة هذيان مستمر استمر طوال الساعات المقبلة. وهدت الدموع جفنيها المتورمين. لقد استشعرت روحه الرقيقة تولد في حنايا جسدها المرتعش. لم تكن نشرة الأخبار قد انتهت عندما نهضت لتتقيئ العالم بأسره بكل قذارته.
 *
  لم يستطع أن يحدد المسافة بالظبط، لكن أرقاً ما أصابه. لقد كانت البندقية التي بين يديه تشتعل وتنصهر تحت دفق من الصور المتسارعة. لم تكن حمى. إنه شيء ما مختلف يعيشه الآن. لقد سقطت السماء على أضلعه منذ اللحظة الأولى التي أشعلت فيها القذائف المباني المترامية على مد ناظريه. لقد كان لهيبها يحرق كل أزقة اللعب المفروشة بشتى أنواع الضحكات العابثة والخبث الجميل. كانت تستعر وتتلظى وتوقفت بالظبط عند صورة صالح الذي قطعت القذيفة كل أطرافه وتركت صدره الهزيل وبقايا ملامح وجهه الناعمة. لقد شعر بأنفاسه الأخيرة تتبخر وتطفئ أخر ذكرى له عن طفولة بعيدة. 
*
  أمواج متلاطمة كانت تتسارع وتعبر تلك المحيطات الواسعة. وكان ثمة رماد رقيق قادم من أقسى الشرق. تسلل في عتمة المساء إلى الشقة السابعة في إحدى ضواحي لندن. وبعثت تلك الرائحة في نومها أحلام بعيدة. كان ذلك منذ أكثر من 25 سنة. حينها كانت تجاهد لأن تبقى حية. لقد أرادته بكامل كيانها. لقد كان هو الذكرى الوحيدة المتبقية من زوجها الذي توفي إثر الأحداث الدامية التي وقعت في مدينة حماة. حينها كانت في شهرها التاسع. وقبل أولى الإنفجارات التي هزت أطراف المدينة كان سعد قد وضع يديه على بطنها المتكور وداعبه بحنو وقال لها. سأسميه صالح. وابتسم لها وخرج ولم تره من وقتها. ثلاثة أيام استمر مسيرها المتواصل بعد أن اغتصبها أربعة جنود. لم تدر كيف وصلت إلى بيت أهلها في حمص. وطوال الطريق كانت تدق في رأسها فكرة واحدة. صالح سيعيش. كبر صالح وسافرت به إلى لندن لتهرب من تلك الذكريات الأليمة التي أورثت في قلبها ندوب كبيرة. ولطالما رأته عنيد كوالده ولم تستطع أن تلجم جموحه. ومنذ اندلاع الثورة أراد العودة إلى سورية. قال لها حينها. أريد أن أعود يا أمي ثمة ولادة جديدة تحدث هناك. أريد أن أكون بين أهلي في صناعة المستقبل.
*
 نهضت من نومها كالممسوسة وأدارت التلفاز على إحدى المحطات العالمية. كانت تلك الدقائق القليلة التي لزمتها لتستوعب ما تشاهد تقارب دهراً كاملاً. حينها كانت صور لقذائف متوالية تنهال على المدينة. وعلى الشريط الأحمر في الأسفل كتب قصف عنيف لأحياء مدينة حمص.   كان وجهه مستلقياً على ذراعه اليمنى. وبالرغم من أن جسده قد هرم وترك الزمن أقسى الأثار على عظامه الهشة إلا أنه استطاع الزحف تحت الأنقاض وينتشل تلك اليد التي كانت تمسك بورقة تكاد تحترق. لم يعرف كيف رفع تلك الأكوام من الطوب عن وجهه. لم يكن قد تشوه بعد. كانت ملامحه كاملة. وثمة بعض الندوب الصغيرة على وجهه. لكن جسده كان قد تمزق بالكامل. استطاع حمله. لقد شعر بوهج روحه يدفئ أطرافه المتكلسة ويدفعها لعبور كل تلك المسافة للوصول إلى المشفى الميداني. انه يعرف هذا الوجه. وفي زحمة الصور والمشاعر نقب جيداً عن تلك الابتسامة اللطيفة المرتسمة على شفتيه. حينها بللت الدموع وجنتيه. وسالت على الشعيرات البيضاء المنسابة على الغضون المتجعدة. طوال الأيام الماضية كان يراه في الصفوف الأمامية للمظاهرات. الجميع يعرف أنه عاد من إحدى الدول البعيدة ليشارك في الثورة. وأينما ذهب كان يراه يقوم بعمل ما. تارة يصور وتارة أخرى يساعد في التحظير لمظاهرة. أو يناقش بحماس شديد الشكل الذي سيكون عليه البلد بعد ساعة النصر. الذكرة الوحيدة التي كان يحملها عن هذا الشاب في صغره. والدته التي عادت من جحيم الأحداث الدامية في مدينة حماة والتي كانت تلاحقه بخوفها أينما كان يقفز في الأزقة. 
*
  ضمه إلى صدره كأنه أحد أولاده الأربعة المتوارين في أنحاء المدينة بسبب الاعتقالات المستمرة وبكى كل تلك القسوة الغريبة التي يستطيع أن يحملها الإنسان في داخله ليستطيع أن يصنع كل ذلك الدمار ويقتل هذا الوجه الجميل.
 كانت البندقية ما تزال بيده عندما خرج من المشفى الميداني، وكان الرماد ينتشر في كل الأحياء والتكبير يعلو المآذن. سار بسكينة لم يعهدها من قبل. طوال تلك الأيام كان يتجنب الإشتباكات الميدانية. لم يرد أن يطلق رصاصة واحدة ومنذ اللحظة الأولى التي وجد نفسه قد أمسك البندقية كان يبتهل إلى الله بان يصحوا ويتوقف كل هذا القتل. لكن الله لم يستجب إلى تلك اللحظة. انزوى خلف إحدى الجدران المتهالكة. ومد بندقيته حيث استقرت بثبات بمحاذات الجدار وأرخى يده على الزناد، فاختلط صوت الرصاص بصوت الإنفجارات والتكبير والبكاء والعويل وكأن جنوناً ما قد حل بذلك الجزء من العالم..
                                                                                                                                        (قلم رصاص)

شذرات



        شذرات
 وحين أقول سأنساك يسقط المطر..

  فهل رأيت غيما تيّمه البشر ؟

 بقيت كنبيذ غسلته العتمة..
 فأدمن المسافة بين الكرمة وفائض الكأس !
 ينحني اللّيل ليجمعها ثمّ يذوب في النّهار مجدّدا..
حروف إسمك تتحرّش بأصابعي  كلّما عانقت بياض الورقة!
كأنّي لمّا تلامس حلمي أغدو قطعة ليل تأبى الإنتهاء..
كيف لمزاج الأرض أن يتغيّر فتشرب بدل الدّماء ماء ؟
 خْيّل إليك أنّك قتلتني..  وأنا  من زرعك في رحم المجاز !
 كم هي عدوّ مستتر هذه الحوّاس  لو خالفني فيك بعضها
لأعلن الباقي عليها الجهاد !
                                                                        بثينة الزغلامي ـ تونس
  * (هايكو)
    

الخميس، 9 فبراير 2012

عشــــــــــــــــــــــــــــــــــق يتجــــــــــــــــــدّد





     عشــــــــــــــــــــــــــــــــــق يتجــــــــــــــــــدّد

وكــــــــــــأن بي كــــــــــــــــــائن ينــــــــــــــــزلـــــــــــــــق
إلــــــــــــى دياجيــــــــــــر الظلمــــــة،
ليـــــــــــــرزح تحــــــــــــت مقصلــــــــــــة الصعـــــــاب
تخبــــــــــــــــــو روحـــــــــي ..                
وإذ بغمـــــــــامة بيضـــــــــــاء تنتشلنــــــي
تســــــرقني من تُــــــــرّهات نفســـــي
فأحلّــــــــــق
أحلّــــق مُنصـتة لحفيف الايــــام
وخرير الاحلام..
وألـــــجُ
إلـــــى فردوس خيالاتــــــي ...
يسبقنــــــي عطـــــر كلماتــــــك
لترتســـــــــــــــم لمســــــــــاتك قصيدة عشق تتجـــدّد ...

                                                        ( إخلاص الشاب)

الأربعاء، 8 فبراير 2012

بيان 100 مثقف فلسطيني:




                       بيان 100 مثقف فلسطيني:

                  ليس باسمنا.. ليس باسم فلسطين ترتكب الجرائم أيها القتلة!

 

 ,, بيان فلسطيني جماعي
      للانتساب إلى رابطة الكتاب السوريين والتضامن مع الشعب السوري,,

 يشرفنا نحن الكتاب الفلسطينيين الموقعين على هذا البيان أن نتقدم بطلب انضمام جماعي إلى رابطة الكتاب السوريين التي أعلن عن تأسيسها مؤخراً، من قبل كتاب ومثقفي سوريا الأحرار، أولئك الذين يقفون في صفوف شعبهم وهو يصعد سلم حريته الذي لطخته يد الطاغية بالدم، إن تأسيس رابطة الكتاب السوريين يشكل رافعة أساسية في ثورة سوريا ويضع المثقف الحقيقي في موقعه الى جانب شعبه كشريك فاعل في بناء سوريا الجديدة والخلاص من استبداد حكم العائلة نحو نظام مدني تعددي ديمقراطي قائم على حق المواطنة، يفتح المجال امام حرية التعبير والإبداع ويحرم النظام من تزييف إرادة المثقف السوري الحر عبر أطر فارغة وخاوية استولت على مقدرات الثقافة وصادرت دوره وزيفت إرادته، وكانت دائما أداة بيد الطاغية وأجهزته.
إن سوريا بحاجة اليوم، اكثر من أي وقت مضى، الى هذا الصوت الناضج الصاعد من قلبها، الذي يعزز وحدتها الوطنية ويجعل من تعددية مجتمعها ومكوناته الغنية سببا للقوة وإثراء المضمون وقاعدة للبناء الديمقراطي.
لقد سمعنا، مؤخرا، ممثل النظام السوري في مجلس الأمن يستعمل القضية الفلسطينية ومسيرتها المؤلمة والمشرفة للتغطية على جرائمه المروعة في سوريا. نقول للنظام السوري وممثليه: ليس باسمنا، ليس باسم فلسطين ترتكب الجرائم في سوريا الحبيبة، أيها القتلة. لا تجعلوا من قضيتنا العادلة قناعا لجرائمكم اللانسانية بحق إخوتنا السوريين. إن الشعب السوري هو من تبنى القضية الفلسطينية تاريخيا وقدم لأجلها الشهداء، وليس سياسات نظامكم التي نحتفظ منها بذكريات مؤلمة، ولن ننسى أدوارها في مجازر تل الزعتر في 1976، والعدوان الرهيب على مخيم نهر البارد بطرابلس في 1983، وحصار المخيمات في بيروت 1985، وغيرها من أعمال تسببت مرارا بضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية. لا تستعملوا اسم فلسطين فهي لم تعد ورقتكم الرابحة.
إن سوريا موحدة وحرة وديمقراطية هي ما تحتاجه فلسطين، وهي سوريا التي تولد اليوم من رحم ثورة دامية فجرها شعب عظيم. نحن واثقون من أن اسم فلسطين سيظل في القلب من هذا الشعب الشجاع الثائر ونخبته المثقفة.

الموقعون والمنتسبون 
مريد البرغوثي (شاعر وكاتب)، طاهر رياض (شاعر)، غسان زقطان (شاعر) زهير أَبو شايب (شاعر)،  عزمي بشارة (مفكر)، محمود الريماوي (قاص وروائي)، معن البياري (قاص وصحافي)، يوسف أَبو لوز (شاعر)،  نجوان درويش (شاعر)، ربعي المدهون (روائي)، عادل بشتاوي (كاتب روائي وباحث)، انطوان شلحت (كاتب وناقد)، فخري صالح (ناقد)، حسين، شاويش (كاتب)، حزامة حبايب (قاصة وروائية)، نصر جميل شعث (  شاعر)، أحمد أبو مطر (ناقد أكاديمي وباحث وناشط)، محمد خليل (قاص)، يوسف عبد العزيز (شاعر)، (شاعر)، موسى برهومة (كاتب)، عيسى الشعيبي (كاتب)، موسى حوامدة (شاعر)، نائل بلعاوي (شاعر)، خليل قنديل (قاص)، غازي الذيبة (شاعر)، وسام جبران (شاعر وموسيقي)، عمرشبانة (شاعر)، قصي اللبدي (شاعر)، علي العامري (شاعر)، جهاد هديب (شاعر)، زياد خداش (قاص وكاتب)، ناصر رباح (.شاعر)، باسم النبريص (شاعر وكاتب)، راجي بطحيش (كاتب)، شاهر خضره (شاعر)، رائد وحش (شاعر)، أسماء عزايزة (شاعرة.)، محمود ابو هشهش (شاعر)، خضر محجز(روائي وشاعر وباحث وناقد أكاديمي)، باسل أَبو حمدة (كاتب)، إِيراهيم جابر إِبراهيم (قاص)، عبد الله أَبو بكر (شاعر). أُسامة الرنتيسي (كاتب)، عصام السعدي (شاعر)،  خالد جمعه (شاعر)، نعيم الخطيب (كاتب)، أكرم ابو سمره (شاعر)، حنين جمعه (شاعرة)، أحمد يعقوب ( شاعر)، طارق العربي (شاعر)، يوسف الديك (شاعر وروائي)، مهند صلاحات (كاتب ومخرج)، محمد مشارقة (شاعر)، توفيق العيسى (كاتب وصحفي)، باسمة تكروري (كاتبة)، نجوى شمعون (شاعرة )، محمد السالمي (شاعر)، هاني السالمي (روائي)، بلال سلامة (شاعر)، اسامة ابو عواد ( كاتب)، جبر شعت ( شاعر)، يوسف القدرة) شاعر)، نسمة العكلوك (كاتبة)، عثمان حسين ( شاعر)، رزق البياري (شاعر)، ياسر الوقاد (شاعر)، صبحي حمدان ) كاتب)، عماد  محسن (كاتب)، ليلي فيوليت ( شاعرة)، تيسير محيسن (قاص وناقد وناشط سياسي)، فايز السرساوي (فنان تشكيلي وشاعر)، رجب أبو سرية (قاص وكاتب مقال سياسي)، فؤاد حمادة (ناقد أكاديمي وباحث وناشط سياسي)، مي نايف (ناقدة أكاديمية وباحثة وناشطة جندر)، يسري الغول (قاص وناقد)، حسين أبو النجا (قاص وباحث أكاديمي)، ناصر عليوة (ر وائي وناقد)، عبد الكريم عليان (كاتب وباحث تربوي)، ولاء تمراز (باحث وكاتب سياسي)، عمر شعبان (كاتب وباحث)، حسن مي (كاتب وناقد أكاديمي)، معن سمارة (شاعر وصحفي)، محمد حسونة (أكاديمي وناقد)، عون أبو صفية (روائي)، عاطف حمادة (شاعر وناقد أكاديمي)، غياث المدهون (شاعر)، رجاء غانم (شاعرة)، طارق الكرمي ( شاعر)، أحمد الأشقر، ( شاعر)، علي أبو خطاب (شاعر وكاتب)، دنيا الأمل اسماعيل (شاعرة)، اسراء كلش (كاتبة قصصية)، موسى أبو كرش (شاعر وقاص.)، عبد الفتاح شحادة (شاعر وروائي)، ياسر أبو جلالة (شاعر وفنان تشكيلي)، خليل حسونة، (شاعر وروائي)، مهيب البرغوثي (شاعر)، عبد الناصر عامر( شاعر وفنان تشكيلي(، نضال الحمارنة (كاتبة)، أشرف عمرو (كاتب وإعلامي)، أسماء ناصر أبو عياش (كاتبة وصحفية)، مايا أبو الحيات (كاتبة)، زينات أبو شاويش (كاتبة)، سوزان سلامة (شاعرة). 

الثلاثاء، 7 فبراير 2012

غفوة الروح





 غفوة الروح

يا لسطركَ كيف يحيي ويميت،
يا لنقطتكَ كيف مسحت غبار العشق،
مباحُ هو الشوق على رصيف التعب،
يا لسطركَ كيف إحتضنني حين مال الحنين على الحنين
يا لنقطتكَ .. بللت أوجاع المسافة بمطر حضوركَ،
يا وجع السؤال على شفاهي كيف بلسمته نقطتكَ..
هرب الرسول من الإله حين بللت أقدامه كلماتكَ العاشقة.
(2)
رحل الحنين إلى الحنين
سرق المساء النجوم ونام،
يا لسطركَ كيف مسح وجه إشتياقي بنداه
إستفاقت الحياة من الحياة..
وأفاقت من غفوتها الروح حين عانقها الجواب
تُحبني....
أه من المدى:
كأنك رسمت على معصمك الأفق
وسافرت بي إلى أرض المطر.
                                                                                        (يسرى)

السبت، 4 فبراير 2012

شــهيد الصبــح يشــيع شــهيد المســاء



                                                        شــهيد الصبــح يشــيع شــهيد المســاء
 احمد علي الزين
____________
سوريون.
حملوا حجارة على ظهورهم عند الظهيرة،
بنوا سلما طويلا طويلا نحو الله،
صعدوا اليه واحدا واحدا،
مثلما قتلوا واحدا واحدا،
وسألوه بعتب:
الهي،
كيف تركتنا وحدنا نهبا للوحش في الغابة؟
وكنا عراة ننشد لهاء اسمك،
نرفع على أكفنا طفلا قتيلا وسحابة!
الهي، وكنا ذهبنا الى معرة النعمان، الى قبر سيدنا ابي العلاء لندفن في جواره قتلانا، وفي الدرب كنا نقرأ من سورك سورة الرحمن ورددنا:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
ثم وبكينا من وجد حين وقع الصمت علينا، مشينا الى ليل البيوت نستدل بنجم في قبتك، نجم غارب كالروح.

[[[
 
الهي،
كيف تركت أطفالا كتبوا اللعب على الجدار، أن تسحب أصابعهم من الرسغ وينتشي من صراخهم الجلاد،
وأنت الذي أشرت بسبابتك للكون كن فكان!!
وكان، قد رسموا ظلالهم على الضحى، تسلقوا الظهيرة ليصلوا الى البيت، شاغبوا وهربوا من صف النشيد.
الهي،
كيف تركت منشدا، اقتلعوا منه الحنجرة، كوتر يقطع عن صدر الكمان!
أرأيت إلهي قوسا ينشج دون وتر؟
من اين تخرج هاء اسمك، إن أراد مناجاتك القتيل على آخر الروح؟؟
من أين تخرج هاء اسمك كي تعلو نحوك في السماء؟
وأنت في سابق علمك، انها صرّة الحروف وسرّ الغناء،
هاؤ (ه) تشبه قطرة ماء أو دمعة كرجت على خد ملوح بشمسك!
قالوا: إن المطر الذي بلل خدّ امه يوم قتلوا صبي درعا ليس مطرا بل دمعك!!
وقالوا، بكيت وأجلت العقاب إلى يوم القيامة! هكذا قالوا عن تلك السحابة التي حامت فوق النعش، وعندما انتحبت الأم على التراب وارتمت على القبر، قرأوا في السحابة اسمك.
أما ذاك الصوت الذبيح الذي شج الليل، فهو آخر من أهلي كان عائدا بقطيعه على المساء... تسلوا بالبهائم، قتلوها قتلوها، فبكاها الراعي، وظل ينشج حتى جف ماء النهر.
الهي،
كيف تركت البهائم تقتل في عرائك؟
وهي، لا سبب لها
ولا نسب
ولا حسب
حسبي انت، كيف تركت وجهي يداس بالنعل؟ وانا عمري كله حاف... حاف... حاف من عتبة بيت أهلي حتى آخر الدرب!!
حاف كالخبز الذي أقتات به تحت سمائك،
يابس حلقي كقش الدغل وجسدي إناء.
كيف تركت وجهي يداس بالنعل؟
وملامح وجهي هي رسمك!

[[[

سوريون حملوا قتلاهم على ظهورهم عند الظهيرة،
مشوا الى العواصم سألوا أهلها، ألديكم مقبرة كي نخبئ قتلانا؟
فالبلاد حيث ولدنا وقتلنا صادرها الحزب، كلما دفنا واحدا منا على الصبح يعيدون قتله على المساء، فصار،
شهيد المساء يشيع شهيد الصبح، وشهيد الصبح يشيع شهيد المساء!!
سوريون،
جاؤوا بيروت، لفوا بخبزهم الحاف ما حملوه في زادهم من سهل حوران،
خبأوا تحت رموشهم، شيئا يشبه الحزن،
رأيتهم يرسـمون بجبينهم حدود الصبح، وفي ظهيرة التعب يبردون بعرقهم قرص الشمس.
وفي العشية يشعلون جمر الحنين،
بين حمص وحماه نعى غراب البين
يمي العمر غفلي متل رمشة العين
يا طير سلم عهلي حملهن دمعتين
دمعة عخدك حماه ودمعة لبعدين.

قبر احمد ـ رواية الطفار


رواية  "الطفار"                                                           




اهداء
  مندسّ له قرنين .. قتل رجلاً و امرأتين و اغتصب رائداً بنجمتين. في جيبه جنسية اجنبية و علم اسرائيلي و أثار دماء كل قتلى النظام منذ عامين. بصماته موجودة في تفجير مقامات العراق و ابتلاء الصومال بمجاعتين. اهداه الجندي وردة، سحرها خنجراً و طعن بها نفسه لإثارة الشفقة. قطع رأسه من جنونه و ضرب رأس اخيه بالمطرقة. يخبئ في جيبه الصغير سيفاً و في عينيه كاميرا عميلة. لو صلّى الف ركعة صلاة صبحِ ساوى الاعلام صلاته والرذيلة. حرق نفسه قتل أمه بعدها وضع قلبه في علبة مستطيلة ورمى في سريره أفعى. استشهد أخوه فبكى .. قالت الجريدة من شدة فرحه ذرف الدمعة. و قالت الجريدة المقاوِمة أنها من أجل المقاومة ستقاوم من قاوم الفساد. نحن يد الله عند جيراننا .. و في بيتنا يد الله غلّها العباد. متآمر فضح كذب ملك السموات فيكم .. لن يصعب عليه فضح من ملك البلاد.
*****************
تمهيد....  
ليست هذه القصة القصيرة تجربة كتابية تستحق النقد ، او نتاجِ أدبي يستحق التقييم بحسب المعايير التي تحكم اي تجربة مشابهة .. " قبر أحمد " هي مجرّد تأريخ لأسبوع أو أكثر بقليل لشخصِ اربعيني العمر لديه ما يكفيه من ملل و تكرار يومي للأحداث ليتغيّر كل ما كان يظنّه و يريده منذ اربعين سنة بلحظة، اسبوع واحد محى كل تفاؤل او تشاؤم بالغد ... تسلسل احداث يؤكد ضرورة تغييب كل النظريات
و النقاشات الفلسفية و التنظيرات التي نقرأها في مجلدّات مئوية الصفحات امام تراكم مفاجئ لأحداث يجعل كل حديث عن انسان مسيّر او مخيّر حديث طفوليّ لا حاجة له.
احياناً نفقد القدرة على فرض او منع حدوث اي شيء في حياتنا او حياة الآخرين ، نعجز عن مجرّد توقّع احتمالات حاضرة او مستقبلية فنصبح مجرّد متفرّجين على شريط احداث يعلكنا معه و يغدو كل ما نريد و ما لا نريد امر لا قيمة له . لكن في الوقت نفسه لا نجد انفسنا مسيّرين حسب احداث مرسومة لنا بفضل قوة ما، بل نجد ان كل تفصيل يحدث معنا اليوم هو نتاج قرار اتخذناه في الماضي، القريب او البعيد علينا تحمل مسؤوليته.
ان الشخصيات الواردة في هذه القصة هيي شخصيات حقيقية و تمت الى الواقع بصلة، كل شخصية فيها خليط صفات و افكار موجودة في اشخاصِ عدة نقابلهم يومياً، فأحمد شخص حقيقي يشبهني في جزء من افكاره و حياته و في جزء آخر يشبهك انت .. و كذلك الجميع.
كبر احمد متغرّباً بين اهله في منزل افقده الحس بأي انتماء، اخترع انتماء مصطنع ووضع ترتيباً جديداً لحياته  اولوياته وحاجاته و الناس الذين ارادهم حوله حتّى نسي انتماؤه الاصلي الذي عاد فجأة دون ارادته ودمّر كل ما بناه ارادياً بسرعة خاطفة، حاول ان يستنجد بمن وضعهم حوله (او وضعوه ) فوجدهم في تحالف وثيق مع انتماءه الاصلي، تحالف يقوم على تحقيق هدف واحد وهو تحييده عن كل ما يحصل معه واعطائه دور المتفرّج الذي يعجز حتى الشعور بفرح أو الم ، يقف امام خيارين لا ثالث لهما : اما قضاء ما تبقى من حياته في المأساة او انهائها حالاً .
لم تُكتب هذه القصة ليقرأها أي احد يرغب في قرائتها و تسجل انتشارا بين الناس القلائل الذين يتحملون القراءة لأكثر من ربع ساعة دون الرغبة في النوم او الاستهلاك، فهي لن تباع في مكتبة او تُنشر في معرَض بل ستنتقل من يدك الى ايدي ناس تختارهم انت كما اخترت انا من أخذها منّي بيدي. كما يمكنك ان ترميها ايضا ، ستكون تلك فكرة افضل احيانا.  اظنّ ان احمد يفضل ذلك ايضاً في بعض الاحيان !
من هو احمد ؟ سؤال لن يجيب عنه سوى احمد نفسه فيك ان وجدت فيه ما يشبهك ، عندها ستكون قد قرأت قصّتك انت كما كتبت انا ايضاً قصتّي ...
                                                                                                         كانون اول 2011
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
    لن أصلّي حتّى اسمع الآذان يذاع بصوت امرأة جميل، يذاع عبر مكبرات الصوت ويصل الى كل المنازل جميلاً. بالتأكيد سيكون افضل من هذا الصوت المزعج الذي ما ان يصدح حتى اركض نحو شباك الغرفة أقفله وارفع صوت الموسيقى فيها بدل ان أقوم لأشرع بالصلاة. عندها ربّما سانتظر الآذان لأفتح الشباك  وأدفن أي صوت آخر في أذني.   أهذا ما تودّين سماعه؟  لا يهم، هذا ما أريد قوله ..
- أنت مجنون ...
- مجنون ؟ انتِ العاقلة اخبريني عن ردّة فعلك كيف ستكون عندما ترين من فراشك هذا رجلاً مقرفاً يلبث ثياباً نتنة رائحة فمه تشبه رائحة تنبعث من تحت إبطيه يمشي باتجاهك مزهوّاً برجولته فخوراً بما دفعه لأبو رائد ثمناً للنوم معك ؟ هل ستقومين بما عليك فعله بأدبِ و طاعة لمجرّد انّه قام بما عليه فعله و دَفَع ما عليه دَفعه؟ أراهن أنك ستمانعين وتهربين و لو أدى ذلك إلى طردك من الحانة .. شيماء نحن عندما نضحّي بشيء ما فينا نضحّي به من أجل الحصول على شيءِ آخر أكثر فائدة و إلّا سنكون أغبياء حتماً .

- فعلاً صَدَقت . ألم أقل لك إنك مجنون ؟ فلتقل لي أنت عن شعورك في فراشك عندما يأتيك الزبون السكران المتأنق كي يحاضر فيك عن الصلاة و الملائكة قبل انتهاء الجولة الأولى ! تباً لعملي ..
- تباً لعملي ؟ أهذا ما تقولينه ؟ ماذا أقول أنا عن عملي ؟ و كيف ألعنه بما يوفيه ما يحتاجه من اللعن ؟ ( سحب أحمد سيجارة من العلبة أشعلها و أكمل ) أأقارن بين عملك الذي يشبع حاجات و يجلب لذات رجال المدينة كلهم و عملي تحت أقدام من يحرمهم منها ؟ لم أعرف يوماً أن أصف عملي مع " السيد سليم " بكلمة واحدة ، بعد عشرين سنة من العمل أعجز عن تسمية وظيفتي بكلمة واحدة ! يمكنني أن أكون سائقاً ، طبّاخاً ، منسّق ثياب ، مربّي أطفال ، عامل حديقة ، يمكنني أن أكون مزهريّة أيضاً ! يمكنني أن أكون كل هذا بيومِ واحد ..
أنا موجود دائماً بين يدي سيّدِ لأقوم بما يحتاجه ، أي شيء يحتاجه . هذا السيّد المهندس الذي لم ألمح في يده يوماً خارطة أو سطرة تؤكد ضلوعه في هندسةِ ما ! لا أعرف لماذا أرى فعاليات البلد و ساسته أجمعين يحضرون على مأدبة عشاء حضّرتها أنا كرمى عيون المهندس سليم . أتعرفين يا شيماء ؟ إنهم يدعون له بطول العمر كما أفعل أنا ! أشعر بمساواةِ جميلة معهم أمامه ، أنا النَكِرة . لماذا طول العمر له لا لأحد سواه منّا نحن ؟ أنتِ تستحقين طول العمر اكثر منه .
ظن أحمد في هذه اللحظة أنه سيسمع جواباً أو ضحكة منها ، نظر صوبها فرحاً بما قاله فرآها مستسلمة لنومِ عميق يعفيها من الاستماع الى ترهاته ، فكّر أنها لربّما اعتادت أن لا تسمع سوى أفعال أمر في هذا الفراش ، قبّلها قبلة وداع تملأها الشفقة و مشى .
 كانت عادة أحمد أن يكمل بعد الحانة إلى البحر ليلاً ، يكمل ما تبقى في قنينته من خمر جالساً على صخرة ينظر صوب الأفق سارحاً بأفكاره الى حيث تأخذه سكرته . آنذاك لم يكن يفكّر بشءِ غير ما كان يتحدّث به مع شيماء و نامت، عن السيد سليم و طول العمر ، كأنه أراد انهاء الموضوع مع نفسه إن هي رفضت سماعه .
" ما هو العمر الطويل أساساً ؟ كم يبلغ طوله ؟ سبعون ؟ مئة ، مئتين ؟ ما حاجة الأرض لشخصِ كالسيد سليم لمئة عام ؟! أنا على باب الأربعين وأشعرأنّي مللت الدنيا كما ملّت منّي . مللت النوم و الأكل كالآلات ، مللت الحاجة و الطلبات ، لقد مللت السيد سليم و ضيوفه و روائحهم الفاخرة التي تلتصق على ثيابي كالعلق . آه ، لقد مللت شيماء حتّى .. أربعون .. أيمكن ان اختضر اربعين عاماً لي على الارض برقم واحد ؟! يمكنني ان اعيد شريط احداث اربعين عاماً لي بأقل من دقيقتين الآن على هذه الصخرة .

أهذ ما تبقّى لي بعد كل هذا الوقت ؟ دقيقتين في الذاكرة ؟ ان تركنا المهم يبقى لي ثوانِ قليلة ؟ أعجب.. لو عشت مثلاً مئة عام كما اتمنى للسيّد ، لو عشت مئتي قرن على الارض كل ما سأجنيه بعد موتي إن ذكرني أحد هو لقب المرحوم . المرحوم أحمد ! أتذكر المرحوم ؟
ربّما لا يأتينا الموت في لحظة خاطفة و يأخذ روحنا ، لقد بدأ موتي منذ اللحظة التي ولدت فيها . كأني ولدت حاملاً سلّة ملآنة بدأت تفرغ منذ رأيت الضوء، تراكم الخسائر هذا سيكتمل يوماً ما و عندها سيكون موتي قد اكتمل ، لن يبقى معي شيء في السلّة فأرحل.. " .

لم يكن أحمد مفكّراً عظيماً بقدر ما كان سكّيراً عظيماً ، فهو في حالات صحوه عامل نشيط متفانِ أنيق و لبق ، و لكن ما ان يشرب حتى تأخذه تلك الافكار التي نادراً ما يفصح بها بل يحتفظ بها لسكرةِ أخرى قريبة .
" اللحظة التي نولد فيها هيي خسارة لوجودنا في جسد أمنّا ، نخسر فيها الدفئ و العتم والغذاء التلقائي، ما ان نكبر قليلاً حتى نخسر جهلنا بمن حولنا و نخسر خرسنا ، نخسر طفولتنا و بعدها مراهقتنا فشبابنا والسلّة تفرغ قليلاً قليلاً ، لقد خسرت سنيناً درستها في الجامعة و سنيناً أخرى مع عشقِ قتّال افترضناه أبدياً ، ستفرغ السلّة يا أحمد وانت تشرب على هذه الصخرة فخوراً بما فعلته قبل ساعة مع مومس في ماخور .. "
لطالما بحث احمد عن جديد ،يركّز اهتمامه بشكل دائم على ما ينبذه الآخرون و يتفادوه، كان يروي في الاختلاف عطشه . لكن في هذه الحالة - الموت - فإنّ مجرد الالتحاق بالركب الذي يركبه الجميع هو التميّز بحدّ ذاته ، إن كل الاموات مميزون بنظره، أصحاب تجربة مميزة لا يعرف عنها شيئاً . تجربة مثيرة للعجب فعلاً ، لكن لن تخفى تفاصيلها على احد فالكل سيموتون يوماً و يفهمون تلك المعادلة المستحيلة " دار الفناء هو كون لا متناهي الاطراف و دار البقاء حفرة مستطيلة تحت الارض " . عندما لا نعرف ماذا نقول نقول ما لا نعرف ، سبحان الله .
كلنا نتفادى الغوص في تفاصيل متعلقة بالموت وما بعده، خوفاً او جهلاً . لكن احمد كان يتلذذ في طرح هذه الاسئلة سكراناً لسبب وحيد ، أنه سيعرف كل هذه الاجوبة حكماً ، يكاد فرحه يملأ كيانه عندما يعرف انه سيجرّب الموت بنفسه و سيعرف هذا السرّ العظيم حين يكتمل موته .
*********************
 استفاق احمد في منتصف يوم عطلته الأحد يعاني ألماً حاداً في رأسه يجعله عاجزأ عن تذكّر أي شيء يتعلق بليلته الماضية ، سوى نوم شيماء و ذهابه الى البحر بعدها .
كان شعوراً قاسياً بالوحدة ينخرعظمه ، عندما ينام يوم العطلة للظهر دون أن يشعر أحد بغيابه ، يستيقظ وحيداً ثم يعاود النوم ، لا يرغب ان ينام اكثر او أقل بقدر ما يرغب بامتلاك سببِ ينتزعه من فراشه غصباً ،أو ان يستفقده أحدا، أحدًٌ آخر غير السيد سليم الذي يكون ازعاج اوامره مضاعفاً يوم الاحد .
كانت هذه اكثر الاوقات التي يذكر فيها حبيبته القديمة " شمس" و يتمنّى لو أنها ما تزال موجودة في حياته ، تصبّح عليه ، تشاركه قهوته التي يصبح طعمها كالدواء عندما يشربها وحيداً ..لكن مهما تمنّى و طلب لن يحتاجه احدً آخر في هذه الاوقات سوى سيّده :
- اوامرك استاذ
- أحمد ، لقد نسينا نظارات "مجد" الشمسية في المنزل ، خذها من الخادمة و اجلبها لي بسرعة الى المسبح .
- مسبح بيروت ؟
- بالتأكيد . لن تحتاج اكثر من دقائق معدودة
- حاضر أستاذ : لن استغرق وقتاً .
- جيد
هنا ينتهي الحديث بينهما عادةَ، لكن أحمد كان يستكمله دوماً امام المرآة بصوت عالِ : تباً لك ، و لمجد المدلّل ! لو تغرق في هذا المسبح لأرتاح منكم جميعاً .. سيأتي يوم أجلس فيه على كرسي دافئ آمرك بتقبيل قدمي ووضعها على جبينك ، الى ذلك الحين سأذهب و أتركك انت و عالمك الحريري و ضيوفك المنافخ مع كلاب حراستك ، أنا استقيل ! يرى دمعته في المرآة احتلّت بياض عينه و يسأل نفسه ممّ يستقيل ؟ الى اين سيذهب؟
في الوقت الذي كان يحلم أحمد أن يرزق بصبي يوماً ما كي يتخذه سنداً له، سلاحاً يواجه به الكون رافعاً رأسه ، كان السيد سليم ينتظر نظارات ابنه الشمسية شبه عارِ في مسبح مخمليّ .. كانت تلك هيي أفضل الاوقات عنده كي يتخّذ قرارات حاسمة مصيرية ، يعجز عن تنفيذها رغم رغبته الشديدة بذلك :
" ما هيي وظيفة العين الاساسية ،الرؤيا ام غضّ النظر؟ هل يمتلك من مثلي لساناً للكلام ام لتعلّم الصمت؟ ربّما حتّى أذني قد وضعتا في رأسي للتغاصي عن اشياء كثيرة لا كي اسمع اشياء قليلة .. إنه عالم مجنون يحكمه اللامنطق ! امثال السيّد سليم لم يكتفوا بتسخير الارض وفضائها لخدمتهم بل سخرّوا كل مخلوق لا يشبههم لهذه الغاية بطريقة او بأخرى ، فهم الثروة ، الثروة التي لا تكبر في مكانِ ما ان لم تصغر و تضمحلّ في مكان آخر... سأعيش دون طفل ليتدلل مجد، سأجوع اكثر لتتزين مائدتهم أكثر، ساعيش في غرفة ضيقة كي تتسع لهم قصورهم التي لا يتصورها عقل كائن ناقص مثلي..
بفضلهم اصبحت الدنيا شركةَ كبيرة يملكونها اسهماً بكل ما فيها من ثروات و خدم . جعلوا الدِّين علامة تجارية تختلف معاييرها وفق السوق المقصود، جعلونا آلاتِ منتجة يصيبها التقادم و تنتفي الحاجة اليها مع مرور الوقت ، حتى الفضاء الجميل اصبح بفضلهم حقل تجارب و ساحات معارك و أوكار تجسس .. آه كم نحن حشرات ! يأخنا العِلم، عِلمُهم ، الى الامام الامام حتى نصل الى نقطة لا عودة فيها الى الوراء .
انا لا اطلب ان امتلك شيئاً طمعاً بزيادة ، ليس لدي ما ازيد عليه شيئاً .. أريد فقط ان يكون الرزق على الله كما قال لي والدي مرّة ، لم يقل لي والدي أن الرزق سيكون على السيّد سليم ... "
- سيّد سليم عذراً على الإزعاج ، أنا الآن في المسبح و نظّارة مجد معي لكن يصعب علي تحديد طاولتكم سيدي .
- نظارات ماذا يا أحمد ؟ آه مجد !! (ضحك ضحكة قوية شاركه فيها احدٌ موجود معه ) أحمد لقد خرجنا منذ دقيقتين من المسبح سأراك ليلاً .
- خرجتم ؟ ماذا عن ..عفواً سيد سليم ، في جميع الاحوال اتصل بي ان احتجت اي شيء انا جاهز.. بلّغ تحياتي لمجد الصغير ...
*********************
يعاني أحمد على مدار الساعة من طلبات و أوامر سيّده المستمرة التي غالباً ما تكون دون جدوى و تترك لديه الأثر السيء ، لكن حادثة النظارة تلك لم تمر مرور الكرام كسابقاتها عنده بل جعلته يتوقف عندها كثيراً و يعيد تقييم كل ما يفعله في هذا المنزل، ليس فقط لما شعر به من اذلال فالإذلال صديق قديم له في عمله، بل لما ولّد فيه شوق كبير للأبوّة .. عاد اليه هذا الشعور بالنقص حيال طفلِ يملأ حياته يربيه ، يعلمّه، يكبر معه، يفرح لفرحه و يسانده في أوقات ضيقه، من يدري ربما يأخذه هو أيضاً الى مسبح بيروت !! لكن حقيقة الأمر أنه لم يكن يفتقد شعور أبوّةِ لم يجرّبه يوماً بقدر ما كان يفتقد سنيناً عذبةِ قضاها برفقة حبيبته القديمة "شمس" .
كان كل شروقِ يجلب الى عقله عشقه القديم بكل تفاصيله و كأنه رأى شمس لآخر مرّة منذ ساعات، يستطيع تذكر صوتها كما كان تماماً، يشتمّ عطرها على خدّيه و يشدّ على يدها ثم يصحو، رغم مرور عشر سنوات على وداعهما الأخير .
هي القصّة بمضمونها و أحداثها المستمرّة، والمتكررة دوماً إلى ما لا نهاية، مع كل شمسِ لاهبة تنطفئ فجأة ليحلّ الظلام مكانها و يعمي الأبصار، خصوصاً أبصار أمثال أحمد ممن يعطون ما هو حق لهم بحجّة واهية تفترض ان من رضي بقليله اعطاه الله كثيرَه، حقيقة الأمر كانت معاكسة لذلك تماماً، هذا ما يكتشفه احمد كل يوم أكثر من أمسه، رضاه بالقليل جعل منه أحمقاً خالي الوفاض. خصوصاً عندما يكون الحديث عن شمس ..
شمس فتاة فلسطينية تعرّف اليها أحمد في فترة دراسته، تصغره بسنوات اربعة، سمراء شعرها أجعد، عيونها تجمع بشكل عجيب فرح طفولي لا يوصف و حزن قاتل يقطّع الأحشاء في آن واحد، يذكر طيبة قلبها الشديدة التي تؤّدي بها الى حد نكران الذات أمام سعادة من تحبّ .
يقول عنها باباً من أبواب الجنّة، تملك يداً كالسوط الذي صنعته شياطين الاساطير القديمة، يتيمة الأب لا أخوة لها.. قُتِل أباها يوم وُلِدَت بينما كان متوجّهاً نحو المستشفى على حاجزِ قتله لمجرّد أنه فلسطيني الهوية، وهو الذي كان يقول عن فلسطين " أجرّوها للبلد لم يبيعوها، مش مطوّل المستأجر وفالل" هذا ما نقلته أمها لها و ما نقلتهه هي لأحمد عن لسان أبيها في احدى الندوات السياسية أيام الدراسة. قالت له يومها في لقائهما الأوّل :
" ليست اسرائيل هي العدوّ، اسرائيل هذه هي قلب العدوّ النابض. ما ان يتوقف القلب عن استقبال و ضخّ الدم حتى يموت العدوّ حكماً ".
مع بداية عمله تحت سلطة السيد سليم تخلّى أحمد عن الكثير من أفكاره و معتقداته، لا بل غيّر كل أولوياته، تحوّل من ناشط سياسيِّ جامعيّ الى خادمِ ينتظر راتباً متواضعاً يضمن استكمال عيشه، حتى شمس اختفت من حياته منذ أيامه الاولى في عمله الجديد. يشعرأحياناً أنّه استبدلها بقنينة خمرِ قالت عنها يوماً شمس أنها "خمرة اسرائيلية تشكل على عيوننا غشاوة بينما هي ان اضطرّت لشرب شيءِ اسرائيليِّ يوماً ما، لن يكون سوى دمهم النجس" .
قال لها مرّةَ ان من مثلها لا يمكن ان تجتمع مع السلاح بحوزة رجل :" إن حملت السلاح يوماً فإن مجرّد التفكير بك سيرخي اصابعي عن الزناد ويجعلني عاجزاً عن اطلاق رصاصة واحدة في أي اتجاه، حتّى لو أردت اطلاقها على نفسي كما تفعل مقاوماتك".
  يذكر أحمد لقاءه الأخير بشمس، وصفها يومَها أنها شمسٌ منطفئة لا نور فيها لما كانت تأكل وجهها ملامح حزن و تعب و خوف غريب من شيءِ ما لم يعرفه يومها. كانت تندر اللحظات التي تكون فيها صامتة لا تتكلم وهو يستمتع بحديثها حدّ النشوة دائماً، يرغب احياناً لو كان له أربعة أذان كي لا يفوته أي تفضيل في صوتها و كلامها. لكن في آخر ايامهم معاً كانت كوردةِ تذبل و تنحني شيئاً فشيئاً الى ان تحولت الى كتلة حزن صامتة، كشمسِ احترقت بنارها ثم اختفت . تركت له يومها رقم هاتفِ سويديِّ لم يحاول الاتصال به يوماً، فهو قد رماه أرضاً و أشعل سيجارته عندما أدارت له ظهرها ومَشَت .
لم ينساها أحمد مطلقاً، لكنه أصبح مقتنعاً ببدائل اخترعها، خمرٌ و شيماء و طاعة للسيد سليم، ثالوث شرِّ حكم عليه بعيشة جديدة مناقضة تماماً لكل شيئ شبّ عليه و كبر معه، ان كان البيت في فلسطين قد أُجِّر كما قال أبا شمسِ يوماً، فإن أحمد كان كمن باع بيته و سلّم مفتاحه بيده للمشتري، بالمجّان .

 بعد سبتِ و أحدِ ثقيلين على أحمد استفاق أول الاسبوع بنشاطِ غريب لم يحدث ان شعر به من قبل، كأنّ جسمه من حديد و عروقه من خشب، شعر بقدرة على لكم السيّد سليم على وجهه و رميه أرضاً دون تردّد. لم يشعر أبداً قبل اليوم أن الغرفة هذه ضيقة عليه إلى هذا الحدّ الخانق كأنها لم تعد تتسع لما في داخله.
خرج و جهّز السيّارة كالمعتاد، ساعد الخدم في تحضير فطور السيّد سليم و ابنه، قصد المكتبة المجاورة اشترى الجريدتين ووَضعهما على المكتب، عاد الى الحديقة ووقف جنب السيارة يدخن سيجارته منتظراً خروج مجد الصغير كي يأخذه الى مدرسته. لم تعنيه كل هذه التفاصيل يومها بل كان كل ما يشغل باله هو الساعة في يده، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء دوامه و الهروب ساعتين، مع هذه الحرية والهواء الذي يدخل رئتيه بسلاسة لا يخطر بباله مشروع أفضل من زيارة شيماء . خصوصاً بعد زيارته لها منذ يومين والتي تركت أثراً سيئاً فيه بعدما نامت و تركته مع سيجارةِ و خمر.
خرج مجد من الباب الكبير بثيابه المدرسية كالعادة، ينظر الى احمد بنفس الطريقة الذي ينظر فيها أبوه اليه. فكّر احمد ان الطفل يكبر و يحاول لعب دور ابيه و تقليده فيما يفعل كمثلِ أعلى.. اقترب أحمد نحوه مبتسماً ببلاهة :
- "مجد" ! تبدو اليوم رجلاً أنيقاً سيسلب الفتيات عقولهنّ، اشعر بالشفقة على البنات في مدرستك اليوم ستنشب حرباً اهلية بينهنّ بسببك .
- خذني الى مدرستي دون قلّة أدبك.. انت انسان حقير تساوي عملةَ بائدةَ
قال الولد هذا الكلام و نفخ صدره و نظر الى عيني احمد مباشرةَ مصطنعاً وهرةَ طفوليةِ كانت كالرصاص الذي مزّق صدر أحمد. تمنّى أحمد أن يصفعه على وجهه و يعلّمه الأدب، تذكّر كيف كان يتصرّف مع من هم اكبر منه سنّاً عندما كان في هذا العمر.. بقيت عينا الولد في عيني أحمد لوقت اطول، لا هو لا يريد صفعه فقط، سيقتله و يرمي بجثتّه بوجه أبيه الأرمل !
لم يفوته أن الطفل يردّد هذه العبارة بعد سماعها مرّة من والده في احدى المرّات التي كان يؤّنب فيها أحمد على غرقه في نومه و اهمال العمل الصباحي، قال له يومها : "أنت نكِرةَ تافهة لا تساوي عملة بائدة في جيب شحّاذ ". لافرق، ابتسم أحمد للطفل مجدّداً أرخى عينيه إلى الأرض، حاول حمله الى السيارة كالعادة فامتنع الولد و مشى بنفسه و جلس هذه المرة في الخَلف على غير عادته . ينظر أحمد الى الولد في المرآة فيشعر أنه بالفعل كبر في هذا اليوم تحديداً و أصبح أنفه أعلى و عيناه أوسع، وكلّما انتبه أن احمد ينظر اليه في المرآة سعل سعالاً خفيفاً أتبعه بضحكة رضى عن النفس .
بعد هذه التوصيلة التي دمّرت كل الهدوء والنشاط الذي بدأ به أحمد نهاره اشتدّت لديه الرغبة في مجيء الليل ، أكمل نهاره بشكله المعتاد في المنزل حتّى حلّ المساء، أنهى ما عليه من عمل، تأكّد من اطفاء كل ضوءِ لا يلزم في غرف البيت الكبير عملاً بوصيّة السيّد ثم عاد الى غرفته مسرعاً، تأنق وتعطّر، فتح قنينة خمرِ جديدة شرب منها القليل حملها بيده و مشى.."أنا النكِرة التي لا تساوي عملةَ بائدة، قليل الأدب . لا افعل شيئاً في النهار سوى انتظار الليل الذي اقضيه خائفاً من النهار الذي سيليه لما سيحمله لي من مللِ و إذلال جديدَين ".
  ها هو ابو رائد القوّاد كالعادة مع نارجيلته الضخمة عند المدخل بيده مسبحته يقلّبها بأصابع غليظة تبدو كأنها لم تعرف شكل الماء يوماً، كانت شيماء مشغولة عندما وصل، لا يهمّ سينتظرها أحمد فهي الوحيدة التي يريدها. انتظرها و هو يشرب ما تبقّى في القنّينة من خمرِ بشكلِ متقطّع قبل الدخول .
أشار له أبو رائد بالدخول مبتسماً ابتسامةِ لم يراها أحمد من قبل على هذا الوجه المتجهّم دائماً، شعَر أن الزبون الذي سبقّه دفع المبلغ المضاعف تجاه خدمات مميّزة على الأرجح، أيضاً لا يهمّ، دخل و أقفل الباب خلفه كانت شيماء تستحمّ، هكذا حلّل، نزع شاله وضعه على الكرسيّ الوحيد في الغرفة جنب التخت الذي جلس عليه، أشعل سيجارته وانتظر .
- أفلاطون مجدّداَ في الديار! حلّت البَرَكة أيها السكّير
- شيماء منذ استيقظت صباحاً وأنا انظر إلى ساعتي التي تمشي متثاقلة تجعل الانتظار مهمّة شاقّة على من يعذّبه الشوق مثلي

- سيّد أفلاطون، أسدِ لي خدمةَ اليوم وقم بلعب دور الأخرس أرجوك، الا يوجد أحد أخرس بين فلاسفة التاريخ العظماء؟؟سيكون هذا رائعاً بالفعل ! (ضحكت ضحكة عالية مصطنعة و أفلتت شعرها المبلّل على كتفيها ) اصمت ولا تتعب نفسك بالكلام ، قم بما تريد دون تحليلاتك و أرائك اللاهوتية فقد كان نهاراً طويلاً أسوأ ما فيه ان ينتهي مع افلاطونِ مثلك .

كان تأثير الخمر شديداً عليه في تلك الليلة فهو قد أنهى القنينة بينما كان ينتظرها خارجاً، لم يفهم كلمة مما كانت تقوله، كان يرى شفتيَها تتحركّان ببطئ أشدّ من بطئ عقارب ساعته في النهار،حاول أخذ المبادرة لكنّه واجه صعوبةَ في ذلك، تأفّفت ،وضعت يدها على فمه كي تضمن صمته و تُبعد رائحة الخمر عن أنفها، لم تنزع يدها عن فهمه كل اللّيل .. كانت تتحرّك كالمجنونة بينما كان هو ينتقم من "مجد" في هذه اللحظات على طريقته: "نَم أيها التافه الرضيع الى جانب المدفأة برعاية خادمة أكثر تفاهة منك، هل أنهيت دروسك ؟؟ سأعلمّك درساً لن تنساه إذاً ! لا ليس الآن، أنا الآن مشغول بفرح و لذّة من السماء، سماء لن تراها في عمرك كله كما لم يراها أبوك من قبلك ".
كانت من أطول الليالي التي قضاها في الحانة، جسده يتلذذ بمجنونة تحرق التخت بمن فيه و عقله يفتَخر بانتقامِ مفترض من الوَلَد.. انقضت الليلة و أكملها كعادته بخمرِ جديد على الصخرة نفسها عند البَحر، لكنه لم يستيقظ في غرفته هذه المرّة، بل نام هناك حتّى صباح اليوم التالي .
هكذا كانت أيام أحمد تمضي، أوقات مبعثرة في ثالوث مقفل يتحكم في تفاصيل حياته، خمر و شيماء و"سيّد سليم". في داخل أعماقه توقٌ قاتل إلى الحريّة، إلى منزلِ يأويه مع زوجةِ يؤسس معها عائلة دافئةِ جميلة، إلى عملِ يتناسب مع كرامته كإنسان.. يحلم بيومِ يشرب فيه خمراً ليتذكّر أشياءً جميلة يحبّها لا لينسى هموماً ثقيلة رابصة على روحه كالجبالِ.
أصبحت لديه قناعة راسخة أنه لا يوجد فرق بين سجن صغير و سجّانٌ ظالم، و سجن كبير و سيّد سليم. كان تنفيذ الأوامر بشكلِ آليّ تلقائي يسحب من روحه أصالتها يوماً بعد يوم. لا يمكنه أن يتذكّر آخر مرّة أمر فيها أحداً بتنفيذ شيءِ ما، حتّى شيماء كان يطلب منها اللذات متلعثماً متوقعاً سخريّة ثقيلة منها، لكنه كان يتحمّل كلّ ذلك، ليس جبناً أو قلّة رجولة بل لخوفه أن يفقد أي ركن من أركان هذا الثالوث رغم كرهه لا بل حقده على كل تفصيل فيه و رغبته الشديدة في تدميره يوماً حقّاً كما يفعل يوميّاً أمام المرآة .
لم يبقى هذا الثبات والرتابة طويلاً في حياته.. أتى الثلاثاء حاملاً معه الضربة القاضية التي قصمت ظهره نصفين يؤلماه.. إتصالِ سريع من أخيه ينقل إليه خبر وفاء أمّه، دون مقدمّات : "أحمد، الحاجة أم بلال توفيت اليوم دون أن تشرّفها حضرتك في زيارة وعدتها بها منذ سنتين.. سندفنها غداً عند الظهيرة هنا في مقبرة القرية، إن استطعت أن تتخلى قليلاً عن قنينتك و العاهرات حولك تعال و اعطِ غرفة الجرذان تلك قسطاً من الراحة " .
مفاجئاً كان الخبر وصادماً لأحمد، وقع الهاتف من يده وبقي واقفاً ينظر إلى اللاشيء لا يعرف ماذا يفعل، أشدّ ما في الأمر أذيّة له كان أن الغضب الذي اعتراه نتيجة طريقة أخاه في نقل الخبر كان يفوق بأضعافِ حزنه على وفاة أمّه، لم يشعر أنّه فقدها فهو فقد شعوره بتلك الأمومة منذ ترك البيت و توجّه الى المدينة للدراسة و بعدها للعمل، في كل هذه الفترة كان يزور أهله زيارات متباعدة في بعض المناسبات كان آخرها منذ سنتين، لم تطل حالة الجمود التي سيطرت على كل ما فيه طويلاً بل قطعها صوت الهاتف المرميّ أرضاً.. إنّه السيّد سليم :
- أستاذ سليم .. أوامرك !
- أنا في المكتب تعال .
- حاضر أستاذ دقيقة واحدة .
خرج أحمد من الغرفة نحو الحديقة متوجّهاً إلى المكتب، محاولاً كل الطريق تركيب صيغة جيّدة للجملة التي سيقولها للسيّد سليم بخصوص وفاة أمّه و نيته بالتغيّب غداً عن عمله كي يواسي أهله في هذا المصاب. قرع الباب و دخل ، رأى السيّد سليم كالعادة محاطاً بأوراق كثيرة و دخان كثيف يتصاعد من سيجاره، و فنجان قهوته البارد دائماً. نظر اليه السيّد نظرةَ غريبة لم يراها من قبل على وجهه، كان السيّد يتفحّص في وجهه كأنه يراه للمرّة الأولى .
- لقد مضى على توظيفك في هذا المنزل سنيناً طويلة، لم أحتاجك فيها يوماً إلّا وكنت جاهزاً بجنبي. لم اسأل يوماً عن واجباتك إلّا ووجدتها تامّة كاملة. نادرة هي المرّات التي تقاعَستَ فيها عن تنفيذ التزامِ ما هنا، إلّا عندما تكون سكراناً. (ضحك عندها ضحكة عاليةَ ثم فجأة اختفت كل الملامح عن وجهه و أكمل بصوت منخفض كمن يخشى ان يسمعه احد غير أحمد ) أنا أشعر برضى وراحة نفسية كبيرة لوجود شخص مثلك في خدمة عائلتي يقوم بما عليه من واجبات و يجعلني أرد له الجميل مجبراً على تنفيذ ما عليّ تنفيذه تجاهه .
- شكراً أستاذ. من دواعي سروري سماع هذا الكلام، هذا لطفٌ منك. أشكر لك ثقتك . لو لم أكن مرتاحاً هنا ما كنت لأقضي كل هذه السنوات بخدمتكم .
- لا أجد أي سبب مقنع يجبرني على التحدّث بهذه الأمور معك يا أحمد. ستنتفخ الآن و يكبر رأسك و تتصرّف بثقة زائدةَ حدّ التقصير في عملك. لكن رغم ذلك لا أرى ضيراً في نقل تقديري لجهودك لأنكّ تستحقّ .
- كلّا سيدي بالعكس تماماً، لن انتفخ أبداً بل سأضاعف جهودي و أعمل ما بوسعي لأحافظ على هذه الثقة التي تعني لي الكثير. شرف كبير لعاملِ مثلي ان يسمع إطراءً من سيّد كبير مثلك، جميل أن أعرف أن تعبي يؤتي ثماره و يرضيكم سيّدي. إسمح لي سيّدي أن أطلب منكم معروفاً بعد إذنكم .
- ألم أقل لك أنك ستتمرّد؟ أنت تتسرّع باسغلال هذه الثقة يا أحمد .
- العفو يا سيّدي لقد كنت أوّد أن افاتحك بما أوّد طلبه منك قبل أن تتصل و تطلبني .
- أحمد. ركّز و افهم ما سأقوله لك جيداً. غداً في تمام الساعة الخامسة فجراً ستكون سيارتي جاهزة في الحديقة . أتسمع ؟ ستتوجّه بها نحو الصيدلية حيث تجد رجلاً ينتظرك هناك يلبس معطفاً نبيذيّ اللون، ستعتبره أنا و تنفذّ كل ما يطلبه منك بالحذافير دون أيّ تقصير.. إن استمرار هذا المنزل الذي أواك كل هذه السنين واقفاً على قدميه هو رهن بالتزامك الصمت غداً مع هذا الرجل . سيقول لك هو ما يتوجّب عليك فعله و أنت ستنفذّ دون أي اعتراض او حتّى استفسار.. اجمع كل ما تريد ان تقوله من كلام في رأسك و قله لي عندما تعود الى المنزل . أحمد !
- نعم سيدي أسمعك جيداً .
- ستنفّذ أوامره و تعترض لديّ لاحقاً.. واضح ؟
- سيّد سليم . أردت أن أقول لك
- واضح ؟
- سيّد سليم...واضح .
- أخرج الآن دعني أكمل عملي
- حاضر .
استغرقت عودة أحمد إلى غرفته ثوانِ قليلة رمى بنفسه بعدها على فراشه يبكي كطفلِ صغيرِ، بكى أمّه و طفولته، كان كمن يبكي انسانيته التي دفنها بيديه . لم يلعب دور البَطل أمام المرآة هذه المرّة بل كسرها و تناثرت أجزائها في أرض الغرفة كلها..هل يبكي أمّه التي نسي أنها موجودة كل الفترة الماضية و لم يعد احتمال أن تموت يوماً ضمن احتمالاته ؟ هل يبكي بسبب جبنه و عجزه أن يتجرّأ و يطلب يوم إجازةِ من سيّده لحضور دفن أمّه على الأقل ؟ كل هذا فقط لأن سيّده رهن بقاء المنزل بالتزامه غداً بعملِ يجهله مع شخص يجهله ؟هل يعقل أنّها صدفة خبيثةَ بهذا القدر؟ و إن كانت صدفة، لماذا لم يخبره بموتها على الأقل ؟ ماذا يعنيه هذا البيت و من فيه أساساً إن كانت أمّه غداً ستدفن تحت الأرض؟ ماذا سيعني له بعد اليوم احتقار سيّده له إن كان مُحتَقَر من اقرب الناس اليه ؟ ربّما أمه ايضاً احتقرته بعد أن خذلها .. يسأل نفسه و يبكي و يتقلّب أرضاً كعجلِ مذبوح ملأ صوته أرجاء الحديقة خارجاً . حتّى نام كغائبِ عن الوعي، غفوةَ غريبة باردة بنَفَسِ ثقيل يقاطعه السعال كل دقيقة .
طالت ساعات الليل على يتيم الأمّ، كان يبكي تارةَ و يوهم نفسه بالنوم تارةَ أخرى..كان الوقت كالسيف المسنون الذي يمزّق أحشائه غير آبهاً به إن قطعه أم لا .
استفاق أحمد فجرالأربعاء شديد النفور من نفسه،لم يحدث ان احتقر نفسه بهذا القَدر..لقد كره نفسه بشدّة. نظر إلى وجهه على قطعة صغيرة من المرآة التي كسرها أمس فوجَده أصفراً شاحباً، هزّ رأسه متأفّفاً، تنقل نظره في أرجاء الغرفة كمن يبحث عن شيء ما دون جدوى. بصق على يده ومسحها على وجهه في المرآة، تمنّى لو يختفي هذا الجبن فيه للحظةِ واحدة كي يقطع لسانه. ظنّ أنّ لا حاجة له بلسانه بعد اليوم ما دام هو سبب تعاسته، لا بسبب ما ينطقه من كلام بل بسبب ما يعجز عن قوله، لعلّ لسانه هذا تعوّد على النطق فقط بعبارات الطاعة والشكر آليّاً..كان شعوره بالندم على شيئ لم يقوله أشدّ قساوة من الندم على كل شيءِ قاله، خصوصاً عندما يختلط هذا الندم مع الاحتقار للذات وعجزها .
تولدّت لديه فجأة الرغبة في ترك كل شيءِ مكانه والرحيل، اكتشف بعدها أنّه أضعف من أن يقدم على هكذا خطوة. كيف يتجرأ على الرحيل و هو قبل ساعاتِ قليلة عجز عن طلب يوم إجازةِ لدفن أمه التي لم يراها منذ سنتين ؟
- صباح الخير أستاذ
- أحمد هل استيقظت من فراشك ؟
- بالتأكيد سيّدي .
- جيّد، إنّها الخامسة إلّا ربعاً قم بما عليك فعله ولا تنسى أي تفصيل أوصيتك به، كن حذراً ولا تتحدّث إلّا بما تُسأل عنه . أتفهم ؟
- نعم سيّدي سأقوم بما تأمرون به .
- أحمد . عليك أن تفهم جيّداً أن مصيرك في عملك كما مصيري في عملي اليوم يرتبطان على انضباطك . لا تقم بأي حماقة !
- حاضر أستاذ سليم . لن تكون إلّا ممنوناً بإذن الله . شكراً لك مجدّداً على الثقة .
لم يضطّر أحمد إلى تحضير السيّارة فقد كانت جاهزةَ تنتظر من يقلع بها. اتّجه نحو الصيدليّة كما أمره معلّمه. ظهر الرجل الموعود صاحب المعطف النبيذي في تمام الساعة الخامسة، ركب في السيّارة على المقعد الخلفي دون النطق بأية كلمة، نظر في عينيّ أحمد في المرآة قليلاً، سحب هاتفه من جيبه ضغط بضعة أزرارِ ووضعه على أذنه :
" سليم .. ها هو خادمك الغبي يقود بي الآن . لديّ شعورٌ أكيد أنّه أحمق ولن يجلب لنا سوى المتاعب، أنا أتمنّى ذلك صديقي أنتَ تعرف أين سترخي المتاعب أوزارها " أقفل الخطّ ابتسم للحظة وهو يهزّ رأسه إيجاباً ثم تجهّم من جديد .
كان أحمد يتصرّف كقطعة أثاثِ جامدة، لا يفهم شيئاً ممّا يحدث ولا يبدي أي رغبة في ذلك، لكنّه يسأل ضمناً عن " هويّة هذا الذي يصفني بالخادم للسيّد سليم ؟ هل انزعج خاطرك يا مرهف الأحاسيس؟ إن كنتَ لست بخادماً فما الذي يجعلك تقود سيّارة سيّدك بشخصِ يلبس معطفاً للمهرّجين بينما أمّك ستوارى الثرى بعد قليل ؟ " فكّر أن يؤكّد كلام الرجل حول حماقة و غباء هذا الخادم والقيادة به إلى القرية وتركه وحيداً مع السيارة هناك لكنّه طرد الفكرة سريعاً من رأسه كالعادة و قطع أفكاره صوت ضخم من الخلف :
- ألا تريد أن تسأل أين أريد الذهاب؟ هل أمرك سيّدك أن تنزّهني؟ تباً لسليم و مصائبه !
- أين تأمرني بالتوجّه سيّدي ؟
- المطار .. توجّه إلى المطار( قالها بعد أن شدّ جبينه ووضع هاتفه في جيبه و حمل مسبحة صغيرة ذكّرت أحمد بمسبحة أبو رائد رغم الفرق في الحجم بينهما )
لم ينطق الرجل أي كلمةَ بعد ذلك، ولا أحمد فكّر بينه و بين نفسه فيه و فيما يخفيه، لمع وجه أمه في رأسه ارتعب و خرجت السيّارة عن مسارها للحظة . توقّع سماع الإهانة من الخلف، لكن الرجل كان و كأنه نائم بعينين مفوحتين . تذكّر شمس،ظنّ أنها تملك وأمّه الابتسامة نفسها، سبّها دون سبب . حسناً سيتوقفّ عن التفكير ويبدأ بعدّ السيارات التي يمرّ عنها للتسلية حتّى وصل الى المطار. أمره الرجل بالتوقف قبل المدخل بقليل، نزل من السيّارة و اتصّل بأحدِ ما، حاول أحمد الإتصال بأخيه بلال عندها لكنّ الأخير لم يجيب، أعاد هاتفه إلى جيبه و عاد الرجل الى السيّارة : " إلى المدخل الغربي بسرعة الريح " و هكذا حصَل .
نزل أحمد من السيّارة عند المدخل و فتح الباب للرجل في الخَلف، ركض عاملين من العمّال آليّاً نحو السيّارة فتحا الصندوق و أنزلا منه ثلاثة حقائب واحدة كبيرة و اثنتين بحجمِ متوسّط و توجهّا نحو الداخل أمام الرجل الذي همس بأذنه قائلاً : " عند التاسعة تماماً في هذه النقطة بالتحديد، دقيقة تأخير ستكلّفكم الكثير " و مشى .
لم يَعرف أحمد أن في السيارة حقائب، تذكّر أنه وجد السيّارة جاهزة في الصباح ، فضّل عدم التفكير بما لا يعنيه . كلّ ما اراده هو مرور هذا اليوم على خير و لكلّ حادث حديث. فكّر بالذهاب الى القرية للتعزية لكن الوقت لا يسعفه فهو إن مشى الآن لن يصل إلى هناك قبل العاشرة. ركَن السيّارة في الموقف و أعاد محاولة الإتصال بأخيه مرّات عدّة دون جدوى، أرخى كرسيه إلى الخلف و انتظر مرور الوقت .
  حاول أحمد كثيراً تفسير ما يحدث حوله دون جدوى، لكنّه شعر أنّه يقوم بعملِ بطوليّ.. على الأقل هذا ما رآه في عينيّ سيّده، لكنّه لم يفهم تلك الرغبة بالفشل عند هذا الرجل . كان فكره يدور في دائرة مفرغة تنتهي دائماً عند دفن أمّه في نفس الوقت الذي ينتظرهو فيه أحد ما في سيارة مكيّفة . أدار السيّارة و مشى دون أن يعرف أين يذهب، اشترى قهوة و دخّان ، وعاد إلى الموقف حتّى اقتربت الساعة من التاسعة بقليل فأسرع الى المكان الذي أنزل فيه الرجل .
وصل الرجل والسيّارة سوياً بدقّة، لم يكن بحوزنه أيّة حقيبة حتّى المعطف النبيذي لم يكن يرتديه. كان يضع يديه في جيابه مبتسماً ابتسامةِ قلقة، فتح الباب بنفسه و جلس في السيارة، ارتاح أحمد لسببِ لم يعرفه كأن المهمّة انتهت جلس خلف المقود و سأل مجدّداً بهدوء : أين تأمرني بالتوجّه سيّدي ؟ . فاجأه الرجل بجوابه إذهب حيثما تريد لكن في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف أريد أن أكون عند الصيدليّة و تعود أنت لعملك . أضاع إذاً أحمد الوقت المطلوب في شوارع المدينة و وصل الى الصيدلية مجدداً على الوقت حيث نزل الرجل بعد أن قال له مبتسماً : سأراك قريباً .
وصل أحمد إلى منزل سيّده، ركن السيّارة ولم يجده في المنزل على غير عادته في مثل هذا الوقت . حاول الاتصال به فوجد خطّه خارج التغطية ،ربّما كان يتصل ليطمئنه ان المهمة انتهت و يستأذن منه الذهاب الى القرية رغم انتهاء مراسم الدفن . اتّصل بأخيه فردّ عليه الأخير وهو يبكي : " حتّى في نعشها سألتني عنك أيها الحيوان ! سأقتلك . أقسم بروحها أنّي سأقتلك ! "

أقفل أحمد الخطّ مرتجفاً بعد أن أشعل فيه كلام أخيه ناراً لاهبة، خليطٌ من الخوف و الحزن سيطر عليه، لقد أقسم بلال بروح أمّه .. في هذه اللحظة فقط استحقّ أحمد موتها و هرب كالعادة الى غرفته الصغيرة و أقفل خلفه الباب .
لم يمضِ وقت طويل حتّى اتصّل به السيّد سليم بينما كان هو بحالة يرثى لها في غرفته، أبلغه أنه عرف بخبر وفاة أمه و قدّم واجب التعزية لأهله عبر الهاتف. لامه لأنه لم يخبره يوم أمسِ مستغرباً أنّه لم يحضر الدفن. ربّما تحدّث ً أنه سيساعده بأي شيء يحتاجه أو شيئ من هذا القبيل لا يمكن لأحمد أن يتذكّر فهو كان يسمع ما يقوله له سيّده عبر الهاتف دون أن يردّ بأي حرف أو حتّى يفهم أي حرف مما سمعه . يهزّ برأسه ببطئ حتى انهى السيد سليم كلامه و أقفل الخطّ . رمى الهاتف بعيداً و بقي داخل غرفته مقفلاً على نفسه حتى غياب الشمس ثم شروقها من جديد..

ا ستفاق أحمد مذعوراً كأنّه سمع صوت انفجارِ ضخم في أذنيه، لم يحتاج أكثر من ثانية واحدة كي يجلس ماسكاً رأسه بكلتا يديه و كأنّ ساعاتِ قد مرّت عليه وهو بهذه الوضعية. لم يفتقد في هذه اللحظة أي شيء سوى الخمر، أتعبه الصحو و التفكير ينهش دماغه نهشاً .لم يأكل ولم شرب قهوته الصباحية، خرج مسرعاً من غرفته مهملاً كل ما عليه من واجبات صباحية متوجّهاً نحو المتجر القريب. اشترى اربعة قناني خمرِ كبيرة من النوع الذي يشربه دوماً، عاد الى غرفته وأقفل هاتفه.
شرب القنينة الاولى بسرعة مجنونة في غرفته دون وعي، فرحاً بنجاحه في المهمّة التي أوكلت اليه بالأمس و حزيناً مثير للشفقة على وفاة أمّه . شرب نصف القنينة الثانية بهدوء، وقف بعدها بكلّ ثقة، خرج إلى الحديقة عاجزاً عن الوقوف بشكل مستقيم، لم يفكّر مرّتين قبل الانطلاق بسيّارة سيّده نحو قبر أمّه سكراناً ..
لم يعرف كيف أوصلته السيارة إلى القرية، كان مخموراً بشدة يشرب كل الطرّيق، شعر أن كل ما في القرية يعاديه، الأرض والسماء والأشجار، حتّى الناس لم يردّ أحد عليه التحية، الحزن والملل يسيطران على كل التفاصيل في شوارعها، حتّى الهواء كان يضرب وجهه بقساوة كأنه يؤنبّه على كل تقصيره في السنوات التي مضت..
الطرق إلى المقبرة يمرّ حكماً عبر طريق منزل أهله، وقف هناك قليلاً تأمل بيتاً لم يره منذ عامين.. كلّ شيءِ على حاله حتّى صوت أخيه المرتفع ما زال يهدر في الداخل، أسرع بالرحيل قبل أن يكتشف أحدٌ ما وجوده و توجّه إلى المدافن. استدّل وحده بين القبور على قبر أمه أجدد حفرة هناك حاملاً بيده قنينة خمره الأخيرة يمشي مترنحّاً يقول كلام غير مفهوم . عندما تأكد من مكان القبر عبر الصورة الموضوعة مكان الرخامة رتّب قميصه، سَعَل سعلةَ خفيفة متعمّدة وبدأ يقترب مذعوراً نحو القبر، تذكّر ما كانت تقوله له في كل مرّة زارها : " من انتظر المصيبة ليأتي كانت المصيبة في مجيئه " هزّ رأسه إيجاباً .. تمنّى أن يشتم تلك الرائحة التي لا يشمها في أي مكان في الكون سوى على غطاء رأس أمّه، كرّت الدموع الصامتة بغزارة من عينيه، بحث عن قدمِ يقبلّها لم يجد، قبل القنينة في يده شارباً كل ما فيها ثم رماها نحو قبر مجاور وهوى .
  جلس على حافة القبر على وجهه ابتسامة ترتجف خوفاً، أراد نبش القبر ليتأكّد أنها بخيرِ هناك.. لطالما فكّر كثيراً بالموت و تعمّق في أبعاده لكنها المرّة الاولى التي يراه بهذا القرب، إنها أمه التي كان يعتبر لسنين مضت أن زيارتها هي واجب ثقيل عليه القيام به مجبراً يعطّل عليه يوم عملِ أو عطلة يقضيها في حانة أو ماخور.. ماذا سيقول ؟ هل يطلب السماح ؟ بأية عين يطلب السماح و علامَ؟ الطريقة الوحيدة الآن للإعتذار هي تبادل الامكنة بينهما.. مرّر يده على التراب الطريّ و بدأ بالتحدث وحده سكراناً بصوت مسموع :
"أمّ بلال.. أتمانعي أن أجلس بقربك؟ كيف كان دفنك ؟ هل بكى أخي بقدرِ ما سبَّني ؟ هل أقول لكِ الآن المرحومة أمّي ؟ لن أرى وجهك بعد اليوم إلّا هنا (ضرب بيديه ضربةَ قويّة على رأسه و أغمض عينيه) لقد كنّا نتسابق انا و انتِ الى موتنا لكنك انتصرتِ فلم يعد لديك الكثير لتفقديه سوى هذه القرية و ناسها التافهين، أنا أخسر الكثير يا أمّي يوماً بعد يوم.. ها قد خسرتك اليوم، من يدري ربّما اكون قد ربحتك و اصبحت موجودة هنا دائماً في رأسي انا فقط ..
هل تعرفين ان فخرك بشجاعة ابنك الصغير اربعين عاماً كانت كذباً ووهماً رخيصاً بشخصِ رخيص؟ لقد كان خوفي من السيد سليم أشد من حزني عليكِ ! لم أجرؤ على زيارتك في قبرك إلّا سكراناً. إن نظرتك التي تحتقرينني فيها بحنيّة ماثلة أمامي الآن يا أمّي.. ماذا لو أردتُ ان امسك يدك الآن هل ستمتنعين و تسحبينها كالعادة؟ هل فعلاً اصبح كل هذا هنا فقط في خيالي؟ بالتأكيد لم تنسي أحمد ولا لحظة كما نساكِ هو لأَعوام .
انتم قتلتم أحمد منذ زمنِ بعيد عندما البستموه الأمل غصباً و ارسلتموه الى الدراسة غصباً، لماذا لم ابقى هنا مع بلال أعمل في المنشرة أتزوّج و أُرزق بصبي؟ كنت على الأقل موجوداً في دفن أمي أتقبل التعازي بدل تقديمها لنفسي. كنت أتلذذ بعبوديتي و انتشي بعَدَمي بينما كنتِ انتِ تُدفَنينَ تحت التراب هذا .. ما أحقرني !
كل هذا الأمل انتهى بي خادماً عند الاغنياء، حذاءً جميلاً في قَدَمهم ما ان يبهت لونه قليلاً حتى يرموه في القمامة فالغنيّ لا يحتاج سكافاً بل يخلع الحذاء لمرّةِ واحدة فقط .. كل دعائك الذي ناجيتِ به الله كي يبعد الرذيلة عنّي ذهب سدى فالرذيلة تأكل أحشائي، لم أقم بعملِ صالحِ منذ سنين..لم انظر في عينيّ أنثى نظرة طاهرةَ منذ خسارتي لعينيّ شمس ..
ان نقصت كاسة صغيرة على الطاولة في البيت كنتُ ارمي الطعام ارضاً و ارحل تاركاً خلفي الخراب، ها انا اليوم احضّر طاولة انيقة متناسقةِ للسيد سليم وولده و احرص الا تنقص هذه الكاسة عن الطاولة كي لا يرمون هم الطاولة و اضطّر انا الى التنظيف خلفهم بإرادتي . لا أعرف من ألوم اليوم، الومكِ انتِ ام الومُ نفسي، الوم الله ام القدر ؟ ولماذا سألوم أحداً ؟ فقط كي أُبرر هذا الذل الذي يمشي معي كظلّي أينما ذهبت ليل نهار.
كان والدي يستقبلني في كلّ مرةِ آتي فيها استقبال الأبطال، فقط لأنني اعيش في المدينة . تباً لهذه القرية و تلك المدينة، ربّما كان يتوقّع منّي ان اعطيه مبلغاً من المال يؤكّد له أن اموري سالكة في عملي، لكنّني كنت آتي و يداي فارغتان في الهواء فيعرض هو عليّ المساعدة آخذها، رغم علمي أنها من بلال .
هذا أنا يا أمّي، جميل ان يكتشف الانسان كم هو نتن أحياناً، سكّير على قبر أمه الذي لم يجفّ ترابه بعد يتكلّم مع حجارة وحشرات تنهش لحمها .
هل رأيتِ الله حقّاً يا أم بلال؟ ابنك يرى الله في كلّ يوم قبل ان يموت، أموت كلّ يومِ قبل أن أرى الله، عاهرة تملك وقتي و شهواتي، كحيوانِ برّي غريزته هي قَدَره اركض خلف غشاوة خمرِ تمنعني من أي تفكيرجدّي، كنت اسبّكم كلّكم بوجهكم و الآن لا ينطق لساني سوى طاعةً: حاضر سيدي، أمرك استاذ، كما تريد، اوامركم..انا لا أطيع الله الذي خلقني واطيع عملي طاعة عمياء ! هذا ابنكم البطل يا أم بلال! لم يشعر برجولته يوماً سوى في المرآة التي كسرها..أنا أخاف من رجولتي أمّاه، كأنّي حشرة تافهة على ضفة نهر غزير متدفّق..
  تبتسمين الآن؟ ابتسمي.. أنا ايضاً لن أبكي، اساساً انت لا تريدين البكاء من شخص يبكيك جبناً يبكي دناءة نفسه.. مسحورٌ بالسيّد سليم و أوامره..تباً لآلهه لماذا اقول "السيّد" سليم حتّى في نفسي؟ إنه سليم النتن! سحقاً له ولماله.. هو المال الذي فَعَل بي كل هذا، إنّه العَوَز الذي ربيتموني عليه فكبرت ضمن مثلث الموت الذي يحكمني .
كان جسدك البارد يُدفن هنا بالأمس بينما كنتُ أنا أقود سيّارة دافئة بشخص لا أعرفه يعاملني كالقرد ويحتقرني و أنا ابتسم له ببلاهة و أزيد يقينه انني غبي تافه لا املك عقلاً كي افكرّ . لقد أكّد لي أنني حذاء من فردتَين : واحدة في قدم سليم و أخرى في قدم هو يختارها . كَوني حذاءَ امر اهم بكثير من حضور دفنك يا أمي، أقول ذلك بكامل وعيي الآن دون سَكَر فأنا في كامل وعيي تعرفين ؟ اصارحك بما عجزت عن قوله سابقاً ولا مرّة! الاحوال سيئة ... جسمي مريض و عقلي معطّل أعاني من مشاكل نفسية تجعلني اشفق على نفسي احياناً، مدمن خمرةِ تأكل كبدي بنَهَم قاتل، لا اعرف فتاة جميلة سأخطبها ولم اجمع مالاً يكفيني لأجلب معي باقة وردِ الى قبرك كي اجمع ما يكفيني لبناء منزل هنا . فلترقدي فخورة بابنك " .
لم يعد يستطيع احمد التركيز مطلقاً بما يقوله او يفعله من شدّة تأثير الخمرعليه و شدّة الشمس التي الهبت رأسه، رمى بوجهه على التراب و هو يئنّ مرتجفاً كأنّه سيبقى هناك للأبد .
يذكر أحمد كم كان عمره عندما اصبح هو والخمر صديقان لكنّ الأكيد أن عقله لم يبلغ يوماً هذا الحدّ من الضياع، كانت كل لحظة تمرّ تنسيه ما قاله في اللحظة التي سبقتها. بقي مستلقياً على القبر دون حركة لأكثر من ساعة يحاول عبثاً تركيز عقله على أي شيء، كأنه هو المتوفّي و ليس أمّه، رآها تقترب منه بهدوء تلبس ثوبها الرمادي الذي اعتاد رؤيته عليها تتكأ علىعصا لم يرها من قبل. كان يستحيل عليه فهم او تفسير تلك النظرة على وجهها ووضعها في خانة حزن او فرح بلقياه، ضحك بصوت عالِ والدموع قفزت مجدّداً الى عينيه... " قف على قدميك مستقيماً كالرجال! اكذب عليّ بدمعة مصطنعة يا أحمد، كذبت علي كل السنين التي مضت، لماذا لبست ثوب الراهب الحزين اليوم؟ قم وارحل فأنت تعرف كما أنا انّك كاذب . لم أنم يوماً دون شحذ الرحمة لكم من الله أو دون دمعة تنزل رغماً عنّي على ولدِ خرّبت الغربة عقله، انتَ تيتّمت اليوم لكنّني كنت انا الثكلى كل هذه السنين. قم !
عزّ حزنك عنّي يا أحمد، لقد حرمتني الفرحة بك و بنجاحك حين هربت في عزّ شبابك و حرمتني رؤية ولدي يكبر وتكتمل لحيته و تبرزالعروق في يديه. سهلٌ ان تحرمني دمعةً كاذبة من عينك.
لقد كنت أفكّر فيك في اللحظة التي متُّ بها، أردتك جنبي لأخبرك عمّا كنت اراه في آخر لحظات حياتي لكثرة ما كنت تسألني عن الموت في صِغَرك. تمنّيتك قربي فقط لأقول لك ان الانسان في آخر لحظة في حياته يشتاق فقط لمن خذلوه.
كان والدك يمسك يدي اليمني يحاول الضغط عليها و اليد الأخرى يمسكها بلال ببرودة وهو ينظر في عينيّ زوجته التي تقف على الباب بشكلِ يصعب التمييز بينها و بينه. تمنّيت لو كنت انت الذي تمسك كلتا يداي آنذاك، او على الاقل ان تقف انت على الباب منتظراً ان يتسّع البيت عليكم و ترتاح من خدمة عجوز مريضة. لم اخبرك ان شعري قد تساقط بالكامل في السنة الأخيرة وكان اولاد بلال يضحكون عليّ عندما يرونني دون الغطاء على رأسي ؟
هي لديها ما أفرحها في موتي يا أحمد، لكن انت أيعقل انّك لم تجد سبباً بحزنك على وفاتي سوى انك لم تحضر الدفن؟ كنت تدفنيي كل يوم بتقصيرك دون ان يرفّ لك جفن وانا اتحمّل منتظرةََ صحوة ضمير من ولدِ ربّيته كي يأتي الى قبري سكراناً عاجزاً عن لفظ كلمتين بشكل واضح. لم اراك في هذه الحالة يوماً رغم انني سمعت انّك تقوم بالفظائع...اشعر بالشفقة تجاهك من تحت التراب. أكثر ما يغريني الآن كي اعود الى حياتي هو ان اصفعك صفعة اشتهيتها على وجهك منذ زمن.
  انت الآن يتيماً، لديك ما يجعلك حزيناً وانت تعاشر النساء كي يغمرونك اكثر، ستتهرّب من اعمالك بحجّة فقدانك امّك كما تفعل الآن في هذه اللحظة، بطل مسلسل حزين . اليس كذلك؟ ستشرب اكثر و تسكر اكثر وتغرق في الخطايا اكثر متسلّحاً بيُتمك لتبرير كل باطلِ تفعله... اعرفك جيداً يا أحمد،عزّ المعرفة .لا فرق، انت بين يدي امّك تلعب هذا الدور، ارحل يا احمد ولا تعود الى هنا أبداً،انا الآن طيفاً في رأسك..لن تجد تحت هذا التراب سوى جثّة تنهشها الديدان والنمل وبضعة عظامِ رثّة. قم و ارحل بعيداً، قف على قدميك يا أحمد، ، قف على قدميك" (بدأ يتكرّر الصوت بقوّة في رأسه كالصَرَع الذي فتَحَ عيناه فجأة ووجد الشمس في وسطهما كأنها تشوي دماغه،الهاتف يرّن في جيبه...)
-أستاذ سليم .. أوامرك !
 
ا يذكر
 ******
- أين انتَ ايها الحيوان؟ هل سرقت السيّارة ؟
- سيّدي ارجو المعذرة
- هل تركتَ العمَل أم ماذا ؟
- سيّد سليم
- تترك باب الغرفة مفتوحاً و ترحل دون اي شعور بالمسؤولية أيها الغبي أين انتَ الآن؟
- كنت اعزّي أهلي وقد جدّ عليّ امر طارئ
- اتعتقد انّك حرّ لهذه الدرجة ؟ أنا الطارئ الوحيد الذي يجد عليكم أيها السفهاء ! لقد كبرت رؤوسكم و عليّ تكسيرها و دوسها بأقدامي . أين السيّارة ؟
- السيّارة معي سيّدي .
- لقد ذهب مجد الى مدرسته بالتاكسي وانت تتسكّع بسيارتنا ايها الحقير. اخلق في مكتبي على الفور ! اصبحت سيّد نفسك الآن يا رخيص .
- سيّدي أحتاج على الاقل ساعة ونصف كي اصل .
- لسوء حظّك ... ( و أقفل الخطّ بعد ان كان يصرخ بأعلى صوته منفعلاً كما لم يراه احمد في السابق ).
وقف على قدميه بصعوبة بالغة، تختلط في رأسه اصوات غريبة مع صوت امه وصوت السيّد سليم وهو يصرخ كالمجنون و يشعر ان الشَعر يحترق على رأسه، ركض نحو السيّارة ومشى بسرعة البرق في طريق العودة، تناسى كل ما حدث معه وكل ما قاله وسمعه من امه في غيبوبته، كان يملك حدّاً ادنى من التركيز يحاول حصره بما سيفعله مع السيّد عندما يصل واستغرقت الرحلة التي تستغرق ساعتين عادةً، أقلّ من ساعةِ بقليل .
عندما وصل الى المنزل ركن السيارة بهدوء، دخل غرفته مسرعاً غسل وجهه و غيّر قميصه المتسّخ بالتراب، تعطّر و هرول نحو المكتب. ألهى نفسه بالتفكير كيف يمكن لشخصِ ثريّ انيق ذو مركزِ مرموق كسيّده ان يتحول بلحظة الى وحش متخلّف له قرنَين يعيش في اوهام العبودية والبشاعة، ماذا يشعر يا ترى عندما ينعته بالحيوان؟ هل يشبع شعوره بالتفوّق عندما يحطّم انسانية غيره امامه دون اي شعورِ بالرأفة؟
هذه المرّة كانت الأمور محسومة عندما أحمد، استغرق قراره بالاستقالة من عمله ثوانِ قليلة، للمرّة الأولى قرّر دون تردّد سأرمي المفتاح بوجهه و أرحل.
فتح باب المكتب دون قرعه فوجد السيّد سليم بانتظاره كالعادة، لكنّه يدير له ظهره في هذه المرّة و ينظر ناحية الحديقة من الشبّاك :
- سيّد سليم . لقد حسمت قراري
- تباً لك و لقرارك . ضع المفتاح على المكتب و اغرب عن وجهي، ان وجدت ما يخصّك في الغرفة خذه معك و ارحل من هذا المنزل . أنت عارٌ على العائلة .
- ما كنت ارغب في قوله هو ..
- إخرس ! لقد ظننتك أليفاً لكنكم كلكم متشابهون. افعل ما قلته لك وامشِ . ستجد راتبك غداً في ظرفِ في غرفة الخدم . ( اشعل سيجاره من جديد ونفخ الدخان بشكل عشوائي ثم صرخ مجدّداً : أغرب عن وجهي ! )
لم يستوعب احمد كل ما يحدث معه دفعة واحدة، لم يستطيع جمع أفكاره بمصيبة واحدة كأن القدر أصبح دوامة قاتلة هو في صلبها عاجز عن أي مقاومة. ما زال الدوار يسيطر عليه نتيجة نومه ساعتين مخموراً تحت الشمس عند القبر...لقد قدّم استقالته لسليم ألف مرة في السابق امام المرآة، لكن عندما تجرّأ على التصرف كالرجال طرده السيّد قبل ان ينطق كأن قدره ان يحتفظ بهذه السكاكين مغروزة في قلبه . وضع المفتاح بهدوء على المكتب، لم يستطع اخفاء دمعته، رغم حريّته فهو عاجز عن توجيه اي كلمة ترد ولو القليل من ثقته بنفسه . بقي لسانه متجمّداً، عاد إلى غرفته وضّب اغراضه القليلة في كيسين فقط،جلس على فراشه و صعقه السؤال الذي كان أقسى من كلّ ما حدث معه... أين سيذهب الآن ؟
 كانت العظَمة الالهية تمشي في عروق السيّد سليم، كان فخوراً بما فعله بشكلِ لا يوصف. ان تُوقِفَ الزمن عند احدِ ما و تغيّر كل روزنامة حياته فهذا يعني انّك انسان عظيم متفوّق لا شك، ان تُبكي رجلاً اربعينيّا و تفرض عليه سلطتك فأنت انسان ناجحٌ له هيبة و يفرض احترامه على الناس فرضاً. ان تتحكم بحياة الآخرين بهذه السهولة فهذه مناسبة لك لتعظّم ذاتك وتشعر بنشوة لا يعرف لذّتها إلا أمثالك ، فأمثال احمد بنظرهم اغبياء بالفطرة لا يستحقون الشفقة، وُجِدوا فقط للخدمة وعدم التقصير، لقد باعوا انسانيتهم بيدهم عندما ارتضوا لعِب هذا الدور،والمشتري طبعاً هو سيّدٌ سليم .
ما زال أحمد في غرفته على فراشه، هو و كيسَي الأغراض فقط، فكلّ ما في الغرفة هو ملك للسيّد، حتّى المرآة التي سلبته ثقته بنفسه و ما زالت اجزائها متناثرة بأرض الغرفة هي ملكٌ لسيّده. عاشر كل تفاصيل هذه الغرفة حتى اصبحت هي هوَ، لكنه فجأة اكتشف ان كل هذا، كما كان هو لعشر سنوات مضَت، ملكٌ للسيّد . اكتشف أن الطفل مجد رغم كل شَبَعه و انانيتّه كان يملك مكانة في نفسه... بقي أحمد سجين غرفته حتّى الصباح دون أكلِ أو شرب او نوم ينقل عيونه من حائطِ الى آخر يفكّر كثيراً و يبكي قليلا .

  سمع في الصباح صوت السيّارة التي اعتاد هو لسنوات خَلَت ان يوصل بها مجدِ الى مدرسته صباحاً، لكن من يوصله الى المدرسة اليوم هو السيّد سليم بنفسه. ما ان اختفى صوت السيّارة حتى اسرع الى غرفة الخدم و أخذ الظرف الذي يحتوي راتبه دون ان يتكلّم مع أحد منهم، تذكّر يوم أخذ نظارة مجد الشمسية منذ بضعة أيام من الخادمة نفسها. شرب قليلاً من الماء من الابريق و بصق ما بقي في فمه على الأرض أدار نظره في وجوههم و مشى، دون ان يحدّد الوجهة بعد .
عندما خرج أحمد من باب المنزل شعر كأنه يرى الشمس للمرة الأولى في حياته، كأنه سجين خرج من سجنه للتوّ، لكن الفَرق أن هذه الحريّة كانت مفاجئة و كان مرغماً على قبولها الآن كما كان مرغماً على قبول العيش في السجن. فقد رتّب اموره في السابق على اساس هذا السجن وما يرضي السجّان فيه، ماذا ستنفع الحريّة شخصاً يخاف منها، لا بل إنّه لا يريدها و يفضلّ السجن براتب شهريِّ على حريّة تشرّده في طرقات مدينة يكرهها !
سيتصّل ببلال، لا لن يتصّل رمى الفكرة سريعاً من رأسه فبلال لم يرتاح من أمّه كي يأخذ أحمد مكانها في المنزل الصغير، تأكّد أنّه لن يجد حلّا سريعاً لمشكلته هذه فقطع الشارع نحو المتجر واشترى خمره المعتاد و توجّه صوب البحرمجدّداً قاصداً الصخرة نفسها وكانت حينها المرّة الأولى التي يجلس فيها ويدير ظهره للبحر وينظرباتجّاه الناس يمشون على الرصيف المقابل، فقد كانت عادته ان يعطي الدنيا كلّها ظهره و يسكر هو والأفق الممل. كان كمن وجد ما يلهيه عن مصائبه وينظر في عيون المارّة محاولاَ فهم الناس و ما يدور في رؤوسهم و يشرب بهدوء.
كأنه يتعرّف الى الناس من جديد، لكن مع شعورِ مرير بالنقص، كان يكره سلفاً كل رجلاً يراه ومعه اولاد و زوجة ويعتبره انه هو من سبّب تعاسته، كلما يرى امرأة جميلة امامه يتخيّلها عارية تشارك شيماء في عملها. لم يفهم لماذا يضحك الناس كلّهم هنا، من أين يأتي الناس بكلّ هذا الفرَح؟ ترى إن قرّر ان يبتسم يوماً من قلبه هل سيستطيع؟ هل سيعرف ان يقوم بذلك أساساً؟ لم يعد احمد يكره الحياة فقط بل حقَد على كلّ شيء حوله، الناس والأماكن والاوقات والذكريات والطعام والأفكاروحتّى الحيوانات وحياتها .

" لماذا هذا الحبّ العظيم للحياة؟ كيف يحبّ الناس حياتهم بهذا الشكل العذريّ؟ اليس ذلك جنوناً ؟ من مثلي لا يملك حياة اساساً كي يحبها او يكرهها، ربّما اكرهها بلى، لأنها موجودة في كل شخصِ ومكانِ وزمن إلا في نفسي، هل يكفي ان ينبض قلبي و اتنفّس كي اكون حيّاً وكلّ ما في داخلي ميت ؟ أنا كسيّارةِ قديمة ما إن اصلح عطلاً حتّى يظهر عطلٌ آخر... لن أفرح او أحزن بعد اليوم، سأكون الشاهد الدائم على موتي ... "
كان قد بقي القليل في قعر القنينة عندما بدأ يثقل رأسه عليه، اصبحت الأصوات تدخل أذنيه مصحوبةَ بصدى خفيف و المشاهد أمامه مصحوبة بغباشِ ودوخة خفيفة. لم يستطيع التأكّد من بعيد ان الشخص الذي يقترب نحوه الآن هو نفسه الرجل صاحب المعطف النبيذي الذي اوصله الى المطارمنذ يومَين، شرب آخر ما بقي في قعر قنينته ورماها في الماء خلفَه، شدّ عينيه الى بعضهما و اصبح على يقين ان الرجل يقترب منه دون ملامح تدلّ على ما ينوي فعله أو قَوله، فكّر ان يركض هرباً منه، التفت حوله لكنه لم يجد سبباً مقنعاً لذلك، تجمّد في مكانه حتى وصل الرجل الى قربه، يبعد عنه مترٌ واحد، سحب علبة سجائرِ من جيبه ووضع سيجارة منها في فمه، اقترب اكثر وقال لأحمد:
- هل تحضر دائماً انتَ في الوقت المناسب هكذا أم انّه قَدَري؟ جيّد أني لم اطلب قدّاحة من شخص غريب...هل لي بتشعيلة؟
- أنا غريب سيّدي، لا أعرفك ولا تعرف عنّي شيئاً
- فعلاً انت غريب، أغرب شخص قابلته
أعطاه أحمد القداحّة ورفض استرجاعها وقال له دون تفكير: لقد طردني صديقك من العمل. وكانت هذه ربّما المرّة الأولى التي يصف فيها احمد معلّمه بكلمة غير "السيّد سليم". لم يستغرب الرجل ما سمعه وأجاب بهدوء : لقد أبدى لي رغبته في طردك منذ حوالي الشهر لكنّه كان يحاول الاستفادة منك الى الرمق الأخير، ستبقى تعمل لحسابه حتّى مماتك صديقي، هو فقط نقلك من سجنه الكبير الى سجني الصغير.
لم يملك احمد الوقت ليفسّر ما يسمع، بل شعر بنار لاهبة تأكل معصميه في هذه اللحظة، لم يصدّق ما يحدث حوله، يداه مكبّلتان بأصفادِ حديدية تحرق اللحم تحتها والناس تتجمّع بسرعةِ وكثافة حوله وعلى وجوهها الرعب والدهشة، الخمرة في رأسه تمنعه من الاستيعاب سريعاً و تجعل بديهته متثاقلة كالسلحفاة العرجاء، لكن الألم يأكل كفّيه الآن والناس تحدّق فيه كأنه مخلوق عجيب، ضربةِ قويّة منتصف ظهره أركعته على ركبتيه، رجلا أمنِ يمسكاه من قدميه و يرمونه في سيّارة سوداء صغيرة، ظنّ أنه يحلم أو أن السكرة كانت تلعب معه كالعادة مثلما اخرجت له أمه من قبرها أمس، فاستسلم دون إبداء أية مقاومة، سيستيقظ من سكرته ويكتشف ان هذا كلّه كان هراءً من وحي الخيال، لكن تباً ان الألم في ظهره وكفيه حقيقي و الدم الذي ينزف من انفه حقيقيّ يشعر به يمشي على وجهه كالدمع.
- سيّدي، لقد امسكنا بالخادم متلبسّاً يحاول الهرب والأمور تجري كما أمرتم... كلا سيّدي ولا أية مقاومة... بالتأكبد سيّدي. احتراماتي .
- انا لست خادماً أيها العاهر! متلبساً بماذا؟ من أنت؟
لم يردّ أحد من الثلاثة عليه، استرجع في رأسه شريط الأحداث منذ اللحظة التي استدعاه فيها السيّد سليم لإتمام مهمّةِ ما مع هذا الرجل، لم يجد ما يفسّر اي شيء مما يحصل الآن." كيف تتعقّد الأمور و ترتبط ببعضها بهذا الشكل المخيف؟ ماذا يحدث بحق الله؟ لماذا أُطرَد من عملي و يقبُض عليّ رجلٌ دفعني الى خدمته السيّد سليم ؟ ألم أُتمّ المهمة بنجاح سيّدي ؟؟ ماذا يحدث؟ " بقي أحمد يصرخ وحده و يداه مغلولتان بالأصفاد حتّى أتته لكمة قويّة على فمه تبعها يدٌ غليظة تمسك عنقه : ولا حرف !
في غرفةِ تشبه صفوف المدرسة وضعوه، نصف الحائط فيها رماديّ والنصف الآخر ابيض متسّخ، فيها مكتب حديدي عليه بضعة اوراق متباعدة وكرسيّ جلَس عليه. هنا في هذه الغرفة استعاد احمد وعيه و تأكّد ان كل ما حوله هو حقيقي لا لبس فيه.
فتح أحدهم الباب ودخَل، تباً إنه الرجل نفسه ويلبس المعطف النبيذي الغريب الذي ميّزه يوم الرحلة الى المطار:
- لقد قلت لك منذ يومين أنّك غبيّ، لم تصدّقني. لا بل حزنت على نفسك و ابتسمت لي كأنّك تأكل شيئاً ما في رأسي...كم كنت صائباً حينها ! حين قلت لسيّدك انّك ستسبب له المتاعب ضحك ضحكة عالية واثقةِ تختلف تماماً عن ابتسامتك الفقيرة.
- ماذا يحصل؟ ولماذا أنا هنا ؟ ( قالها بثقة متوقّعاً جواباً يرضيه )
- عندما تتكلّم مع الدولة تتكلّم باحترام ! لست هنا كي تسأل أتفهم ؟
- سيّدي أنا لا أفهم شيئاً مما يحدث .
- ربّما انتَ غبي فعلاَ بهذا القدر الذي يبدو عليك، او انّك ذكيّ جداً لدرجة اقناعي بذلك. بكلّ الأحوال انتَ هنا تنتهي صلاحيتك . عملة بائدةِ لا قيمة لها .
- أرجو قدميك أن تشرح لي ما يحدث !!
- إحترم نفسك ! ( مع صفعة قويّة على وجهه هزّت روحه ) . لقد كنتَ أشدّ حماسة من سيّدك في إيصال حقائب المخدّرات تلك الى المطار، أخذت الاتجاه الصحيح قبل أن اقول لك أين تذهب، لم تستفر عن أي شيءِ كل الطرق لعِلمكَ بالتفاصيل. لقد كان صمتك دليلٌ كافِ على تورّطك و كانت طاعتك الدليل الاوضح على مشاركتك باللعبة .
- حقائب مخدّرات ؟ أتحاولون جعلي مجنوناً بالقوّة ؟
- لهذا السبب أنت هنا. أصحيحٌ ان دفن أمّك كان في نفس الوقت الذي كنت به في المطار ؟
وضع احمد رأسه بين يديه على الطاولة متمنيّاً الموت بينما أكمل الرجل كلامه دون رحمة :
- أنا لو خيّروني بين حضور دفن أمّي و اتمام صفقة كهذه، كنت سأفضّل العمل أيضاً، ثم اعتذر من قبر أمّي في اليوم التالي . أليس كذلك؟ كم قبضتَ من العمليّة ؟
- طُردتُ من عملي
قالها أحمد دون تفكيرفمسكه المحقّق من عنقه كأنّه يحاول خنقه قائلاً:
- أنت لا تحتاج لهكذا عمل بعد اليوم يا أحمد. لقد ربحتَ الكثير من المال...مالاً وفيراً لا يحتاج مالكه لأي عملِ غير التمتّع. ( أجهش أحمد بالبكاء حينها و كأنه في هذه اللحظة سلّم نفسه لقوّة ما يجهلها، قتلت أمّه و حرضّت أخيه عليه طردته من عمله وورطّته في مصيبة لا يعرف عنها شيئاً . ربّما اشفق المحقق عليه حين بكى وأكمل كلامه بهدوء) انت احببتَ سليم وضحيت بالكثير من أجله ومن أجل ابنه وبيته، هو اليوم لم يجد ما يضحّي به سواك... الصفقة تمّت، أنا موظّف أقوم بعملي، عملي يقول لي أن سليم هو مهندسٌ بارع استغلّه سائقه لتهريب كميّات ضخمة من المخدّرات عبر المطار لأكثر من مرّة متسلّحاً بنظافة اسم سيّده.عملي يقول أني عندما قبضتُ عليك صباحاً وجدت معك هذا الشيئ (وضع عندها المحقّق علبة بلاستيكيّة مستطيلة تشبه بشكلها علبة سجائر،فيها مسحوق ابيض كالطبشور). أتعرف لديّ تقرير سيصدر غداً يقول ان هذه المادة تسري ايضاً مع الدم في عروقك وليس فقط في جيبك. دعني إذاً أقوم بعملي بهدوء و احترام .
- إنها لعبة الموت يا سيّدي. لا اعرف ما هو المطلوب منّي... اين السيّد سليم الآن ؟
- إنه يحضّر بياناتِ مصرفية تؤكّد امتلاكك ثروة تحتاج الى ستّة قرون براتبك كسائق ان تجمعها... اسمع، انت تروق لي و قد اعجبني صدقك وتفانيك بعملك مع سليم ولكن سأقول لك وللمرّة الأخيرة... دعني أقوم بعملي بهدوء... لدينا لائحة اتهامات طويلة ضدّك يا أحمد أغلبها مثبتة بالدليل القاطع كقضية الحقائب الاخيرة، ما نحتاج اليه الآن هو اعتراف آخر منك كي يتم العمل بسرعة دون الحاجة الى التحقيقات الروتينية وما تجلبه من ملل. النتيجة واحدة يا صديقي في كل الحالات، ستمضي ما تبقّى من عمرك في السجن كي يبقى سيّدك حرّاً يقوم بعمله بنظافة.
قالها ببرودة وكأنه يتحدّث عن الطقس، أدار ظهره و خرج من غرفة التحقيق بهدوء و أقفل الباب خلفه و اختفى أي اثرِ لصوت ما في الأرجاء. ثبّت أحمد نظره على الباب محاولاً تفسير ما سمعه، كان أكيداً ان سليم مع كلّ حقارته لن ينتقم منه بهذه الطريقة، يمكن أن يضحّي به نعم، لكن لماذا يورّطه بمصيبة كهذه؟ الطرد من العَمَل طريقة اسهل بكثير...يتعذّر الفهم
كم يشبه باب غرفة التحقيق هذا باب الغرفة التي يسكن فيها، لكنّ الفرق أنه اختار ذاك السجن بنفسه طوعاً وارتبط بسجّانه حدّ الإدمان، هو يعرف ان السبب في ذاك السجن كان جبنه و تقصيره و خوفه من المجهول، لكن هذا السجن مختلف تماماً، لا يملك الخيار اساساً ليقبل به او يرفضه، كان محتاراً بشأن المكان الذي سيأويه بعد أن طُردَ من العمل، ها هو المأوى قد اتى اليه بقدميه. لا، هذه سخافة يفكّر فيها، ما تبقّى من العمر هنا؟! هذا سجن حقيقي، من سيخبر اهله بما يحدث؟ لحظة ! من سيخبره هو بما يحدث؟
اكتشف احمد في غرفة التحقيق كم كان غبيّاً فعلاًَ عندما اعتبر نفسه سجين عمله والملل الذي يحكم وقته، كان مذلولاً نعم، لكن في هذه اللحظات ستكتشف ان الاذلال هو نعمةً الهيّة ان قارنتها بسجنِ حقيقي بين حيطانِ اربعة ورجال أمن نحت الله وجوههم ليذّكرنا يوميّاً ان جهنّم حق! يستوعب احمد تدريجيّاً ما يحصل، يفنّد هذه الطلاسم العجيبة التي تسيّر قدَرَه... بدأ صراخه يعلو لا ارادياً مصحوباً بكفرٍ بالله والدولة والأسياد، يحاول عبثاً فتح الباب حتّى وقع ارضاً ووجد على الطاولة ما أعمى بصره لثوانِ، العلبة المستطيلة التي قال الرجل انه وجدها في جيبه ما زالت على الطاولة هنا! أيعقل ان المحقق قد نساها هنا؟ أين سأرميها؟ أيعقل انه تركها لي كوسيلةِ وحيدة للخروج من هنا؟ كان يحترق اذاً بين خيارين احلاهما مرّ، إما ان يقضي ما تبقّى من عمره بين حيطانِ اربعة كالجرذان او ينهيه الآن في هذه اللحظة. شعر ان الدنيا قد اصابها الجنون فجأة تجاهه بعد سنوات مللِ وتكرار يبسّت روحه في داخله، لكنّه لم يرد ان يشارك الدنيا في جنونها و يعقّد الاوضاع اكثر، ماذا لو كان ما يحدث الآن هو مزحةِ او خطأ سيتمّ اصلاحه؟ عندها سيكون الانتحار اغبى قرار اتخذه بحياته كلّها.


  مدّه يده التي ترتجف نحو العلبة، تأملها قليلاَ، لم يجرؤ حتى على شم رائحتها من الخارج، وضعها في جيبه لسببِ لم يعرفه. ان كان المحقق قد تركها عمداً لتخويفه فهو محترفٌ حقاً لأن الرعب يمشي في عروقه الآن .
في لحظة هدوء وصمتِ مريبة فُتح الباب فجأة بقوة ارعبت احمد، رجلين يملكان جسد ثورين يسحقان كل شيء في طريقهما، حملوه كالنعجة الى غرفةٍ أخرى باللكم والسحل و الضغط القاتل على العظام و هو يصرخ بهم متألماً راجياً الرحمة فقط و هم لا يملكون اذاناً يسمعون بها، كلّما علا صوته ازداد ضربهم له و اشتدّ حتى رموه في غرفة فارغة تأكلها الظلمة صغيرة كعلبة كبريت. وقع على الأرض مدمى و رأى أمه من جديد تقترب نحوه على عكازها دون الغطاء على رأسها : " اتبكين انتِ الآن عليّ؟ ضعي عيونك في عيوني، ابصقي الآن في وجهي يا امي، انتقمي لأبي المظلوم الذي تفرغ سلّته يوماً بعد يوم. سأخرج من هنا يا أم بلال ! سأخرج ( عاد و تذكر صوت المحقق عندما صرخ به انه سيكمل ما تبقى من عمره في السجن ). لقد كان كل شيءِ يتوقّف على كلمة صغيرة منّي في تلك اللحظة المشؤومة : سيّد سليم اعفيني ارجوك من هذه المهمة غداَ لأنني ساكون متواجداً في دفن امّي. اني استحقّ كل هذا عندما اخاف ان اطلب ما هو حقّ لي او انتزعه بالقوة ...لا يا أمّي لا استحقّ! هم يستحقّونه ،هم يستحقّونه ! "
ظنّ يومها ان خسارة أمه قد وقعت وهي حدث لن يتغير، لكن خسارة العمل يمكن تداركها ان ضحّى قليلاَ، لكنه في الحقيقة...خسر عمله و أمّه في ذلك اليوم معاً. لا بل خسر نفسه .
اختلط عندها احتقاره لسيّده باحتقاره لنفسه، كيف ارتضى ان يكون مبرمجاً كل هذا الوقت؟ اين نسي عقله واحساسه؟ شعر كأنه أتى الى السجن بقدميه دون ان يبليه أحد. السوط الاكثر ضراوةَ ويضرب ظهره الآن هو فعل النَدَم . "كم هي سخيفة الفكرة ان اهرب الآن من هنا، كيف سأهرب اصلاً وإلى أين؟ " الهى نفسه بالألم الذي يعانيه جرّاء الكدمات في جسمه منتظراً حصول حدثِ ما يغيّر مجرى الامور و ينهي هذه الدوامة القاتلة في رأسه، و ربّما يعيده الى حياته مجدداً، فمجرّد الجلوس على تلك الصخرة الآن هو طموحٌ رائع بحدّ ذاته، هذه هي الحريّة ... تافهة جداً في عيون من يملكها، والهِ يشعّ جمالاَ في عيون فاقديها.
 مرّ يومان على احمد في غرفة مربعّة لا يتعدّى عرضها المترين، لم ير فيهما احد سوى يد غليظة تدخل الطعام في صحن صغير كلّ ست ساعاتِ تقريباً يهجم عليه كقطِّ جائع يلتهمه بثوانِ دون الالتفات الى الطعم المقرف، ثم ينام مكعوفاً لساعات يشتكي وحده ويردد اسئلة كثيرة لم يكن يسمعها احد سواه عبر الصدى المتوزع في الزنزانة.
لم يمرّ على احمد منذ زمن يومين متتاليين دون خمرة، كان الصحو ضيف ثقيل عليه لا يسمح له ان ينسى ولو لحظة واحدة مصيبة واحدة من المصائب الجاثمة على صدره. في لحظةِ كان يتذكّر فيها مبتسماً المحاضرات الماورائية التي صرَع بها شيماء في السرير فُتح الباب فجأة بغير موعده :
- جهّز نفسك . ثمّة من يريد لقاءك
- أنا ؟
- كلا زميلك في الغرفة . طبعاً انت ايها الغبي !
- أجهّز ماذا ؟
وقف احمد متسائلاً من سيسأل عنه، توقّع ان يكون بلال إمّا المحقق من جديد، عاد رجل الامن ثبّت يداه و جرّه نحو غرفة التحقيق الاولى. اشتمّ في هذه اللحظات رائحة يعرفها جيّداً، انّه عطر السيّد سليم و رائحة سيجاره! لم يفهم الابتسامة التي ارتسمت على وجهه لكنّه سريعاً ركّب الصفقة في رأسه : أعطني حريّتي أسامحك ! دخل الغرفة و اصبحت الرائحة اشد وضوحاً لكن المشهد خذله، الرجل ذو المعطف النبيذي يقف وحيداً بانتظاره. اراد ان يسأله عن السيّد سليم لكنّ المحقق سبقه في الكلام :
- أين العلبة ؟
- كانت على هذا المكتب . ( قالها وتلقّى لكمة قاسية على وجهه من المحقق وأعاد السؤال )
- أين العلبة ؟
- في جيبي اليمين .
- ها هي إذاً كما كانت... لقد جنيت على نفسك يا براقش !
- اريد محامي ! ( قالها متحمسّاً وكأنه اكتشف كلمة السرّ التي ستخرجه من هذا االجحيم) يحق لي بتوكيل محامِ يدافع عنّي!
- لقد كان معلّمك هنا منذ قليل، مسكينٌ سليم، لقد عيّن لك المحامي رغم كل ما فعلته به يا أحمد! لقد قال لي انه سيسامحك و يتكلّف هو بأتعاب المحامي.. لكن سأخبرك سرّ يا صديقي، محاميكَ هذا سيخفّف عنك الحكم من المؤبّد الى المؤبّد .آه، قبل ان انسى لدي بضعة اوراق واشياءِ جديدة سأعرضها عليك، فيديو كامل لسيّارة السيّد سليم يقودها السائق دون علمه الى المطار و برفقته رجل امنِ و تحرّي متنكّراً يرى بأم العين حقائب مخدّرات تتهرّب فيها ما يكفي لقتل جيلِ بأكمله.
- لقد سئمت كل هذا الكلام سيدي. لقد سئمت الالم الذي سببتموه لي جميعاً دون سبب !
- لقد اعترفت لي في طريقنا الى المطار بتجارتك بالممنوعات لسنواتِ خلت دون علم سيّدك المسكين و على ظهره .
- انا لم أقل هذا !
- انا سمعته .
- لم اصبح مجنوناً بعد ...
- إخرس .. تقاريرنا المخبرية الرسميّة تؤكّد وجود هذه المواد في دمك وتأثيرها على وعيك، فضلاً عن تجارتك بها، لن اتحدث عن كشف حسابك المصرفي الذي يتعدّى المليونَي دولار منقول.
- انا رجل محظوظ إذاً. الم يخبرك السيد سليم انه كان سائقاً عندي ؟
- اتتطاول على اسيادك يا سارق؟ لقد تعرّف عشرة اشخاص على صورتك في الجريدة كانوا ضحايا تآمرك و افعالك الجرميّة، لقد زوّدت اكثر من نصفهم بدلائل قاطعة .
- جريدة ؟
- لقد قضيت وقتاً طويلاً تمصّ دم السيّد سليم و تلعب عليه العابك الخبيثة، وصلت بك الأمور الى حد السرقة. فقد وجدنا في غرفة عملك مقتنيات ثمينة كان يفقدها السيد سليم من منزله ويتهمّ به كل الخدَم إلّا انت، لأنك سرقتَ ثقته ايضاً ببراعة. كبير هذا السليم منذ شبابه .
- لم أعد أقوى على تحمل هذا الجنون، سيّدي اقتلني الآن هنا أو اطلق سراحي لكن كفّوا عنّي لعبة الموت هذه... سأنسحب بالطريقة التي تراها مناسبة، لم اعد اقوى على التحمل اكثر...
- امسح دمعة التمساح هذه عن وجهك! لقد كانت أم بلال أحقّ منّي برؤيتها، بكل الأحوال كان هذا كل ما ينبغي عليك ان تعرفه لكنّي سأكون لطيفاً معك و أخبرك بأشياء لا ينبغي عليك معرفتها، سليم حزين من اجلك صدقاً، هو يحبّك بقدر ما تخاف منه انت، لكنّه كان حاسماً و قويّاً امام خيارين لا ثالث لهما إمّا ان يسلّم نفسه و يكون مكانك اليوم و إمّا ان يحافظ على بيته بتسليمك انت، لقد اختار بعقل الحكماء الذين لا تعرف انتَ عنهم شيئاً سوى ان تنفذّ اوامرهم...فعلاً انت تستحق الشفقة، ستكون الليلة طويلة وقاسية عليك، لكنّي لن انساك، سأرسل لك هدية متواضعة كتعبير عن هذه الشفقة.... خذوه !
كل شيئ واضح الآن كالشمس، ربط حديث المحقق كلّه بكل تفاصيل عمله مع السيّد سليم كل هذه السنوات فهو لطالما كان شخصيّة مريبة تثير اسئلة كثيرة في عقل احمد يتجاهلها سريعاً في يوم القبض، فهم الآن كل كلمة سمعها و كلّ منظرٍ رآه في ذلك المنزل. لكن هذا الفهم الآن لم يريحه أبداً بل زرع في قلبه و عقله يقيناً انّه لن يرى النور بعد اليوم وان المخرج الوحيد من هنا الآن هو الموت، الموت فقط .
  لم يبقى وحده لوقتِ طويل فقد كانت ليلته قاسية و طويلة مثلما وعده المحققّ، ملأ صراخه المكان، صراخ الم مصحوبٍ بطلب المزيد منه، كان يكفر بدل طلب الرحمة ويسبّهم بدا ان يتجدي عطفهم، كأنه يعاقب نفسه و يعطيها ما تستحقّ، رفضه للاعتراف لم يكن تمسّكاً ببرائته بل طلباً للمزيد من الألم، كأنه بدأ يحب هذا الألم و يعتاد عليه، و عندما نحبّ شيءِ ما لن نخاف منه أبداً...لكن الألم هذا تغلّب عليه مع رابع ظفرٍ سُحِبَ من جلده، عندها حاول الهرب من بين ايديهم فقابله احدهم بركلة صاعقةِ على وجهه غرّقته بدماءه حتّى غاب عن الوعي.
لم يعرف كم بقي في الأرض مدميّاً يردّد بضعة كلمات بصوت خانق: لماذا؟ سيّد سليم! أمّي ! بلال! اين انتم؟ اقتلوني... اخرجوني من هنا الآن، سأدور في الشارع و أشحذ الطعام و انام تحت الجسور بكل رضى لكن اخرجوني من هنا...فتَحَ احدهم الباب ووضع اشياءَ لم يميّزها احمد في ارض الزنزانة ثمّ أُغلِق الباب من جديد، انتفض احمد وكانت رائحة دمه جعلته يتقيّأ في ارض الزنزانة مرّتين، لم يبالي بما قد وضعوه على الارض ربّما كان طعاماً نتناً كعادتهم، لكنّه تذكّر ان المحقق وعده بهدية ستصله. زحف نحو الباب فوجد قنينة خمرِ مختومة من النوع الذي يشربه عادةَ ومعها العلبة المستطيلة نفسها التي تركوها له أوّل مرّة في غرفة التحقيق.
  لم يتردد او يفكّر بما سيفعله ولو للحظة كي لا يعود عن قراره و يتراجع، فتح القنينة، افرغ كل ما في العلبة فيها، وشربها جرعةِ واحدة كمن يشرب ناراً تحرق احشاءه، لهيبٌ يسري في عروقه الآن! عيناه تدوران بسرعة كبيرة يعجز عن تثبيتهما وعقله لا يفقه شيئاً في هذه اللحظات سوى الألم، تشتدّ حرارة جسمه و كأنه في وسط نارِ مشتعلة، شعر بجسمه كلّه ينزف الدماء بغزارة و قلبه يخفق بقوّة مرعبة، ما ان تذكّر أمّه حتّى رمى نفسه من جديد على القنينة و أخذ قليلاً تبقّى منها في فمه ونام على ظهره يرجف جسمه و الحرارة تكاد تفجّر صدره .
  شعر بأقدامِ تدوس على صدره، احد ما يجرّه من شعره في ارجاء الزنزانة بقساوةِ من حائطِ الى آخر، مساميرٌ حارقة تدخل في ظهره حاول الاستدارة لتفاديها لكنّه عجز عن ذلك، كلّما دخلت هذه المسامير في لحمه اكثر شعر ان عيونه اصبحتا اقرب الى الانفجاركأنهما قنبلتان موقوتتان، لا يستطيع الصراخ من الألم. كأنّ المسامير التي خرقت ظهره تخرج من صدره الآن، كلّما خرجت تلك المسامير خفّ الألم، حتّى ارتسمت على وجهه ابتسامة طفلِ صغير مع آخر لسعة الم مسّته. حاول رجال الامن انقاذه فعجزوا عن ذلك، قتل المجرم نفسه كي يمنع العدالة من ان تأخذ مجراها. قتل نفسه بجرعةِ مجنونة من مخدّر لطالما كان مدمناً عليه، كان تحت تأثيره عندما نبش قبر أمّه، عندما أدمى فتاةً تدعى شيماء في حانة المدينة وضربها حتّى الموت بقنينة خمرٍ فارغة على رأسها، عندما سرق محتويات منزل المهندس سليم الثمينة و حاول اغتصاب ابنه "مجد" ،كان تحت تأثيره عندما سرق سلاح المحقق و استردّ منه علبة مخدراتِ مستطيلة كانت بحوزته و اخذها جرعةً واحدة قتلته. باءت كل محاولات رجال الامن انقاذه بالفشل، حاول المحقق طلب النجدة لكن احمد كان اسرع منه وسجّل رقماً جديداً في سجلّ الجريمة التي لا تقتل الّا صاحبها...و كالعادة تظهر امرأة متبرّجة وجهها يملأ الشاشة وصوتها يملأ نفوس الأطفال رعباً.." كان هذا كلّ شيءِ حتّى الساعة، نشرة الاخبار قدّمناها لكم عبر تلفزيون الحكومة الرسميّ، نشكر لكم حسن المتابعة ودمتم بأمان الله تعالى" .

                                                                                               جعفر و ناصر
                                                                                       (قبر احمد ـ طفار 2011)