قصة قصيرة
أبو سمير وبغل جمال
عفيف دياب
يفتخر أبو سمير من البقاع الغربي بأن "جبهة المقاومة الوطنية " كلفته مهمة شراء "بغل" سنة 1985 ... دون أن يعرف الأسباب الموجبة لهذه المهمة :"اعتقدت أن الجبهة تريد استخدام البغل في نقل الأسلحة والذخائر إلى المناطق الجنوبية المحتلة، لأن هناك مجموعات من رفاقنا كانت تعمل خلف خطوط العدو بشكل سري... "
أمضى أبو سمير أكثر من 15 يوماً ، وهو يبحث عن "البغل" المطلوب على وجه السرعة، سيما وأن قيادة جبهة المقاومة طلبت منه الإسراع في تنفيذ مهمته :"تنقلت في كل قرى البقاع الغربي، من لبايا إلى سحمر ويحمر ومجدل بلهيص وكفرمشكي .. وصولاً إلى سوقي ضهر الأحمر والمرج :"تعبت كثيراً وأنا أبحث عن بغل بصفات مميزة وأن يكون قوياً إلى أن وجدت مطلبي في بلدة مشغرة".
وجد "أبو سمير" مطلب جبهة المقاومة في بلدة مشغرة، وأجرى كشفاً حسياً على ثلاثة بغال، وهو المزارع والفلاح والراعي الذي يعرف جيداً ماذا يريد... ولكنه لم يكن يعرف لماذا تصرّ جبهة المقاومة على شراء "بغل" بصفات محددة ومميزة.
"عندما وجدت البغل المناسب وامتطيته في تلال مشغرة وأوديتها "لأجربه" رفض صاحبه لاحقاً أن يبيعه لأنه اعتقد أنني من المهربين، وأريد أن أستخدم البغل في التهريب... ولما حاولت إقناعه بأنني لست من المهربين ولا أشتغل في هذه المهنة السيئة، قال لي: لماذا إذاً "تجرب" البغل؟ فقلت له: أنني احتاج إليه لنقل المياه واستخدامه في الفلاحة، وأنني تعرضت لعمليات غش سابقة في شراء البغال ولا أريد أن أقع في الفخ مرة أخرى ، ولهذا السبب أجرب البغل ما إذا كان قوياً أو ضعيفاً... ".
نجح " أبو سمير" في إقناع صاحب البغل بوجهة نظره ، ولكن " لم نتفق على السعر، فقد طلب سعراً عالياً والبغل لا يستحق الثمن الذي طلبه، ولكنه عندما وجدني مصراً على شراء البغل ، استغل الأمر ورفع سعره. لم تكن البغال يومها تستأهل هذا السعر، ولأنني لا أستطيع تلبية طلبه ، عدت إلى قيادة جبهة المقاومة وأبلغتها بأن البغل جيد جداً ولكن سعره مرتفع جداً ولا يستحق الثمن الذي طلبه صاحبه... ".
أصدرت قيادة الجبهة أمراً إلى " أبو سمير" بوجوب شراء البغل بأسرع وقت ومهما كلف الثمن ، لأن الأمر ملح وضروري ولا مجال للتأخير: " لم أقتنع بقرار شراء البغل، وحاولت إقناع الرفاق بأن سعره مرتفع جداً، وعلينا أن نبحث عن بغل آخر... ولكنهم رفضوا وأصرّوا على الشراء ".
نقد أبو سمير ستة آلاف ليرة لبنانية لصاحب " البغل " وهو غير مقتنع بالسعر ... وأيقن أن أمراً ما تحضر له جبهة المقاومة، وإلا ما معنى الإصرار على الشراء بأسرع وقت..." ؟
امتطى أبو سمير " البغل " من مشغرة إلى مجدل بلهيص. وبعد لحظات، وصل شاب لا يعرفه ."طلب مني أن أدربه على ركوب البغل والعدو به في الحقول وبين الصخور... وبعد أربعة أيام ، جاء الشباب من الجبهة ونقلوا البغل في سيارة بيك أب ..."قال ابو سمير.
بعد أقل من أسبوع ، سمع أبو سمير بنبأ اقتحام "جمال ساطي" على بغل مفخخ مقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في ثكنة "زغلة" في حاصبيا : " سمعت الخبر على إذاعة صوت الجبل ... وبيان جبهة المقاومة واستشهاد الرفيق جمال ... وبس شفت صورتو تاني يوم بالجريدي فرحت لأنو كان إلي دور بالعملية ... وعرفت ليش الجبهة كان بدا تشتري بغل بسرعة ... الله يرحمك يا جمال شو كان شب مهذب وقبضاي.
نجح الشهيد جمال ساطي ( أحمد ) المولود في بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي سنة 1962، في إدخال " بغله " المفخخ بـ400 كلغ TNT إلى مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في ثكنة زغلة وتفجير المقر على من فيه... فهو من خطط لعمليته واقترح الفكرة على قيادة جبهة المقاومة التي لم تقتنع بدايةً وحاولت جاهدة إقناع جمال بالعدول عن " عمليته " واقتراح مهمة أخرى غير استشهادية. ويقول " أبو أحمد " الذي تابع كل تفاصيل عملية " جمال ساطي " أنه سعى أيضاً لإقناع الشهيد جمال بعملية أخرى ولكنه لم ينجح و"عندما وجدنا الإصرار والإلحاح من قبل الرفيق جمال...قررنا المباشرة بالتخطيط واستطلاع مقر الحاكم العسكري والوقت الأنسب لعملية اقتحام... سيما وأن قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت أقفلت معبر زمريا واستبدلته بمعبر ميمس ـ زغلة للمشاة . وهذا الأمر كان محط اهتمامنا ومتابعتنا ، لأننا لا نريد أن يحصل أمر ما يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين ، داخل مقر الحاكم العسكري أو خارجه، وكنا نعلم أن قوات الاحتلال تعتقل في ثكنة زغلة بعض الشباب من العرقوب وحاصبيا..." .
تابع الشهيد جمال ساطي و"أبو أحمد" التفاصيل الدقيقة لمسار العملية وزمانها:" كان جمال يقوم باستطلاع مقر الحاكم العسكري بنفسه ونحن معه... وكنا ننتظر الوقت المناسب، تأخرنا بعض الوقت في تنفيذ المهمة... حيث كان بداخل سجن مقر الحاكم العسكري مجموعة من المعتقلين ... وقررنا ألا يقتحم جمال المقر إلا بعد خروج كل المعتقلين منه... ولكن هذا الأمر لم يحصل، فقرر جمال اقتحام المقر من أحد مداخله التي تقع بالقرب من مكتب الحاكم العسكري وكبار الضباط ... وأن يلبس جمال زي رجل دين محلياً من حاصبيا... وكلفنا أحد الرفاق في منطقة حاصبيا بأن يلبس نفس الزي ويتجول ممتطياً بغلاً بالقرب من مقر زغلة لأيام عدة وبشكل يومي حتى لا تثار شبهات عندما يحين موعد اقتحام جمال ساطي للمقر العسكري...".
" نجحت الخطة ... واستطاع رفيقنا من المنطقة المحتلة يومذاك الوصول على بغله إلى مدخل مقر زغلة أكثر من مرّة دون أن يثير الشبهات بحجة أنه بائع متجول ويريد أن يعرض بضاعته على جنود الاحتلال ، واستطاع جمال أيضاً أن يجول ممتطياً بغله أكثر من مرة بالقرب من المقر الذي استطلعه جيداً وأصبح يعرف أدق التفاصيل وساعة الاقتحام وشكله.
أبلغت قيادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بكل التفاصيل والمعلومات ، وأن الاستعدادات لتنفيذ "العملية" أصبحت منجزة ولم يعد " ينقص" سوى تحديد "ساعة الصفر". أبلغت قيادة الجبهة القيادة الميدانية لها بوجوب أن تحدد هي الوقت المناسب... وهذا ما جرى في الساعة الواحدة ظهر يوم الثلثاء من شهر آب سنة 1985 يوم هزّ جمال ساطي مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في زغلة ـ حاصبيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق